بين الإنقاذ وخطر الانهيار ‏"ما العمل مرة أخرى؟"
مقالات

بين الإنقاذ وخطر الانهيار ‏"ما العمل مرة أخرى؟"

الهوّة بين الناس والقوى المهيمنة على المشهد العام تتسع وتتعمق باضطراد. قد تبدو أن هناك لحظة هدوء في حالة الإضطراب ‏التي شهدتها البلد في الأسابيع والأشهر الماضية، ولكن هذا الأمر لا يشكل انعكاسًا لتراجع هذه الهوّة أو أن هناك من سعى أو ‏يسعى لمعالجتها وردمها. الحقيقة أن هناك تراجعا، وربما اختفاء، في الحراك الشعبي المتصل بمسألة الحريات العامة التي انفجرت ‏بقوة منذ مقتل الناشط المعارض نزار بنات وما تلاها من عمليات قمع واعتقالات استهدفت إرادة الاحتجاج والمحتجين، ولكن هذا ‏التراجع لا يعكس اختفاء أو تراجع الأسباب التي طالب بها هؤلاء المحتجين، وكانت وما زالت تحظى بتأييد أغلبية المواطنين، ‏بقدر ما يعبّر عن أمرين، أولهما أنه ورغم شجاعة النخبة التي قادت هذه الاحتجاجات إلا أنها فشلت في توسيع دائرة المشاركة ‏التي أخذت بالتقلص تدريجيًا حتى تلاشت أو تكاد تتلاشى، هذا الأمر قد يبدو عاديًا؛ فخط الاحتجاجات الشعبية دومًا متعرج ولا ‏يسير بصورة تصاعدية إن لم يمتلك عوامل هذا الاستمرار وهي لا تنحصر في الهوة أو استمرار التعدّي على حقوق المواطنين ‏وحرياتهم العامة وشعورهم الذي يتعمق بغياب العدالة بمعناها الواسع، بل بقدرة هذه النخبة الشجاعة على جذب الناس المتضررة ‏من غياب وتغييب العدالة الاجتماعية بكل مكوناتها. وهنا يجب وضع الأصبع وتسليط النقاش.‏

واضح تمامًا أن حالة الاحتقان ما زالت مستمرة، بل وربّما بدأت تتأصل ليس فقط في سلوك المؤسسة الرسمية وقواها المهيمنة، ‏فهذا السلوك مستمر، بل قد يزداد سوءًا ببقاء أسبابه، والتي تتّسع وتتعمق وتتحول إلى نهج تظهره سياسة إدارة الظهر لكل ‏المطالب الشعبية، التي كان يمكن لو تمّ الأخذ بها أن تشكل أساسًا جديًا وقاعدة صلبة لمعالجة هذا الاحتقان، ولكن ما يجري لا ‏يؤشر سوى إلى عكس ذلك تمامًا، بما في ذلك ما يخص طبيعة إدارة العلاقة مع المحتل والتي يغلب عليها حالة الرضوخ للأمر ‏الواقع وفي أقصى الاحتمالات تحسين طبيعته. هذا يجري في الضفة الغربية من خلال سياسة تسويق ما يسمى بالتسهيلات ‏واللهاث وراء مفاوضات دون أسس مستخلصة من تجربة العقود الثلاث الماضية، وأساسها الاعتراف الاسرائيلي الواضح بحقوقنا ‏الوطنية كشرط ومدخل لأي عملية سياسية يجب أن تستهدف استعادة هذه الحقوق وليس المساومة عليها، الأمر ذاته هو ما ‏يجري في قطاع غزة حيث استجداء العودة لتكريس واقع الحال الذي كان سائدًًا قبل أيّار كحدٍ أقصى للمطالبات من سلطات ‏الاحتلال الاسرائيلي.‏

غياب الحاضنة المجتمعية الشعبية لمعالجة التعدّي الفظّ على الحريات والذي وصل حد استهداف حياة أبرز نشطاء مواجهة ‏الفساد والقمع، كانت أحد أبرز أسباب هدوء الاحتجاجات دون نتائج قائمة على مراجعة جدية. الأمر قد يؤدي في حال استمرار ‏تجاهله لتحويل أي شرارة قادمة لحالة فوضى عارمة ربما لا تتوقف سوى عند ركام الدمار والانهيار، سيّما في ظل غياب الحوار ‏الوطني والاجتماعي، وفي ظل طغيان صراعات مراكز القوى للسيطرة على مقاليد القوة المهيمنة على المشهد العام ومقدّرات ‏المجتمع والناس.‏

لا يمكن الاستمرار بإلقاء المسؤولية على الأطراف المهيمنة فقط، والتي أكدت التجربة العملية أنها لم تقدم ولا تريد أن تقدم أو ‏تستمع لأي حلول، بقدر ما سَعَت لتأجيج الفجوة مع الشارع واحتجاجات الناس، وباستثناء المسيرة التي دعت لها القوى الخمس، ‏والتي كانت كمن يُبرئ نفسه من المسؤولية عما يجري فقط، فلم تتحرك أطراف حطام الحركة الوطنية بفعل أي شيء ملموس ‏لمراكمة عناصر القوة باتجاه معالجة حالة الاحتقان الكامنة والملتهبة والمعرضة للانفجار في أية لحظة، ومن المؤكد أنها لن تقوم، ‏بل وغير مؤهلة لذلك.‏

من البديهي أن واقع الحال يظهر أن جذر اتّساع حالتيْ الفساد وتدهور حقوق الإنسان تكمن في غياب هيئات وطنية جامعة ‏للمراقبة والمساءلة والمحاسبة، والتي تكمن في غياب برلمان منتخب وحكومة وطنية منتخبة، بل وقيادة وطنية موحدة ومنتخبة، ‏وهذا ناجم عن استمرار حالة الانقسام الذي بدأ الجميع يستسلم له، بل ويبدو أن طرفيّ الانقسام يعملان على تكريسه، رغم أنه لا ‏يتناقض فقط مع المصالح الشعبية وتطلعات الشعب الوطنية، بل ويقدم الخدمة الاستراتيجية للاحتلال؛ الذي يواصل العمل لتمرير ‏مخططاته لضرب وتفتيت مضمون أي مشروع وطني تحرري، سواء كان ذلك يتم بوعي من هذه القوى المستمرة في اللهاث وراء ‏الفتات الاسرائيلي أو بدون وعي، فلا فرق.‏

أمام هذا الواقع الذي ينذر بأوخم العواقب، لم يتبقَّ أمام الوطنيين المخلصين سوى العمل من أجل الإجماع على رؤية وطنية ‏ديمقراطية جامعة للإنقاذ الوطني تستجمع فيها كل عناصر القوة الخيِّرة في مختلف تجمعات شعبنا على أساس قضايا مجتمعية ‏وقانونية ووطنية محددة، يربطها ويُحصّنها التمسك الكامل بحق شعبنا في تقرير مصيره، بما في ذلك حق اللاجئين في العودة، ‏بهدف فرض الإرادة الشعبية من أجل العودة للمسار الديمقراطي، وانتقاليًا حتى تجري تهيئة البلاد لانتخابات نزيهة وشاملة، ‏التوافق العاجل على تشكيل قيادة وحكومة إنقاذ وطني تضع حدًا للانقسام وتعالج جذر مسألة التعدّي على الحقوق والحريّات ‏العامة، وتعيد تصويب بوصلة النضال الوطني؛ لإفشال وإسقاط مخططات الاحتلال على طريق دحره‎.‎‏ قد يعتبر البعض أن ‏استمرار تقديم هذه الرؤية بات أمرًا طوباويًا لا يمكن تحقيقه، ولكن حقيقة الأمر تؤكد أنه دون ذلك ودون العمل لإنضاج هذه ‏الرؤية وتحقيق أوسع إجماع وطني عليها لإنقاذ مستقبل قضية شعبنا، فإن خطر الانهيار سيكون داهمًا.‏

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.