لماذا لا؟
بعد المشهد الوحدوي الشامل، الذي استنفره الأبطال الفلسطينيون الستة، من لحظة وصول أخبار هروبهم، إلى ما بعد إلقاء القبض عليهم يعود المشهد ليذكر الجميع، بأن الانقسام لا يزال قائماً، ومفاعيله لا تزال تضرب في كل اتجاه. لم يكن الفلسطينيون بحاجة إلى ما ومن يذكرهم بحقائق الأمر الواقع، الذي يعيشون ويعانون منه منذ أكثر من أربعة عشر عاماً. يرفض كل طرف الاعتراف بالمسؤولية عن وقوع واستمرار الانقسام، وفشل كل محاولات رأب الصدع، لكأنها تعود بنا إلى حقائق مماثلة عاشتها وعانت منها الحالة الفلسطينية منذ بداية الصراع الفلسطيني الصهيوني قبل قيام دولة إسرائيل.
غير أن ذلك لا يسعف أحداً لتبرير مسؤوليته عن وقوع واستمرار الانقسام حتى هذا الوقت، حتى وإن كانت الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة قد شهدت هي الأخرى، نماذج متعددة من الانقسامات. كل شيء مختلف، فالعالم من حولنا، والأوضاع العربية والإسلامية تغيرت كثيراً، والشعب الفلسطيني تغير هو الآخر، نحو مزيد من عمق الوعي الوطني، والتفاؤل بحتمية الانتصار، غير أن الطبقة السياسية لا تزال تجتر الأسوأ من تجارب الشعب الفلسطيني المناضل.
الحكومة الفلسطينية أعلنت قبل أيام عن جدولة زمنية ومكانية، لإجراء الانتخابات المحلية، على أساس أن تكون شاملة الضفة وغزة والقدس، لكن ذلك الإعلان قوبل بموجة واسعة من الرفض والانتقاد من قبل فصائل، ونشطاء اجتماعيين وسياسيين، وكتاب وصحافيين، ونشطاء منصات التواصل الاجتماعي.
حين يكون الأمر كذلك، فإن المسألة لا تتصل بحقوق الناس جمعات وفرادى في التعبير عن آرائهم ومواقفهم، وحتى انتقاداتهم، بقدر ما انه يتصل بموضوع المسؤولية السياسية والوطنية والحزبية.
كثير ممن ادلوا بآرائهم ومواقفهم، غاصوا عميقاً في تحليل وتوصيف الواقع الفلسطيني، وكأن الناس لم يعودوا يدركون ويلمسون سمات هذا الواقع المرير، والبعض لم يتوان عن توجيه اتهامات، قد أصبحت جزءاً من قاموس التعبير اللغوي والأخلاقي السائد.
أغلبية كبيرة عللت انتقاداتها أو رفضها بمعاودة التركيز على الأولويات الانتخابية، وتطالب كأولوية بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني. هي كلمة حق يراد بها باطل، ذلك أن الكل بات يعرف ماهية العقبات الكثيرة التي تحول دون أو تمنع إجراء الانتخابات على هذا المستوى بعد أن اتخذ الرئيس محمود عباس قراره، بتأجيل أو إلغاء الانتخابات التي كانت مقررة.
هذه الوعود قد أصبحت مكرورة، وتضاف إلى مئات المبادرات، والأفكار الوطنية الواقعية، والصادقة، لكيفية تجاوز حالة الانقسام، لقد فشلت كل محاولات التدوير، سواء من خلال الأولويات التي وضعتها اتفاقيات المصالحة، أو البدء من أولويات مختلفة، إلى موضوع حكومة الوفاق وحكومة الوحدة، حتى نضب مخزون الأفكار الباحثة عن حلول لمعالجة استعصاء المصالحة والوحدة وتحولت المناقشات إلى عملية سجال وندب، لا طائل من ورائها.
لم يجرب الفلسطينيون إعادة بناء الشراكة، والثقة من الأسفل إلى الأعلى والسبب في ذلك، يعود إلى غياب الوعي الصادق والعميق لمسألة الديمقراطية والشراكة، ودور الشعب في اختيار ممثليه وممثلو الشعب ليسوا فقط المجالس التشريعية والوطنية على أهمية ذلك.
يفترض العقل السوي أن تتم عملية البناء الديمقراطي للنظام السياسي من القاعدة إلى القمة، من الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني والأهالي والنقابات، والاتحادات الشعبية وإلا فإن الأمر لا يعدو وضع طرابيش، منتخبة على واقع لا علاقة له بالديمقراطية والشراكة الحقيقية العميقة والشاملة.
شخصياً، لا أقلل أبداً من الأهمية القصوى لإجراء الانتخابات العامة، التشريعية، والمجلس الوطني والرئاسية، ولكن طالما أن هذا الأمر متعذر حتى الآن، لأسباب بالتأكيد يختلف عليها الكل، فالسؤال هو لماذا لا نبدأ بإعادة بناء الشراكة المجتمعية والوطنية من الأسفل إلى الأعلى.
إن قبول هذه الفكرة، التي في حال تطبيقها ستشكل ضغطاً شديداً على المبنى السياسي الفوقي، يعني انه من المستغرب أن يتم رفض أي دعوة أو قرار لإجراء انتخابات في أي مرفق فلسطيني.
مقبول الحديث عن تعديلات في القرار المتعلق بإجراء الانتخابات المحلية، سواء ما يتصل بالزمان، أو الجغرافيا أو الآليات، بما يعزز الإيجابيات الناجمة عن تنفيذ ذلك القرار.
لقد توحد الفلسطينيون، كل الفلسطينيين، الرسميون والشعبيون والفصائل ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء عموماً والشعب كله، في عديد المحطات الصراعية مع الاحتلال، توحدوا دفاعاً عن القدس، وفي مواجهة سياسة التطهير العرقي، وتوحدوا في مواجهة العدوانات الإسرائيلية بما في ذلك الأخير، وتوحدوا حول قضية الأسرى، وأي وحدة، وهم موحدون ضد الاستيطان، والقمع الصهيوني، وسياسة الفصل العنصري وكان لذلك آثار إيجابية كبيرة لصالح القضية. السؤال لماذا لا يتوحدون على ضرورة دمقرطة المجتمع، وبحيث تجري انتخابات بلدية وانتخابات للنقابات، والاتحادات، وكل الأطر التمثيلية الفلسطينية؟ ثمة أسباب مختلفة بطبيعة الحال لتفسير غياب الانتخابات التمثيلية، فالبعض مرتاح لما هو قائم وبعض آخر يخشى من أن تمنحه ما يستحق، وثمة من هو خارج حسبة الديمقراطية إلا حين تكون لمصلحته المؤكدة أم أننا لسنا بحاجة إلى إعادة انتخاب مجالس بلدية، قد تم تعيينها؟