بالعقل أبو مازن يقاتل إسرائيل
لأكثر من سبب يمكننا القول إن خطاب الرئيس محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة كان هذا العام مختلفاً عن الخطابات التي دأب على إلقائها في نيويورك سنوياً في شهر أيلول، وقد يعود الأمر إلى عاملين أساسيين، فالعامل الأول، بالطبع له علاقة بالظرف السياسي الذي يحيط باللحظة، ذلك أن الخطاب هذا العام، يجيء في ظرف يدعو للتفاؤل باحتمال عودة الحديث أو حتى إطلاق العملية السياسية، حيث أنه لأول مرة منذ عام 2009 لا يكون رئيس الحكومة هو بنيامين نتنياهو، ولا تكون الحكومة مكونة من تحالف اليمين والحريديم فقط، كما أن اجتماع الأمم المتحدة جاء في ظل خروج الجمهوري المحافظ الرئيس الأميركي الذي ناصب فلسطين العداء، ولم يكتف بالتحالف مع اليمين الإسرائيلي وحسب، ولعل كون الرئيس قام بقراءة الخطاب عن بعد، قد وفر عليه ضرورة إرفاق إلقاء الخطاب بالانفعالات المرافقة عادة، لذا جاء الخطاب هادئاً، وربما أنه جاء موجهاً للشعب الفلسطيني، أكثر من غيره.
استناداً إلى ما حدده الرئيس من مهلة عام أمام الإسرائيليين لإنقاذ حل الدولتين، ظنوا بأن ذلك كان بمثابة التحذير أو التهديد لهم، لكن في حقيقة الأمر أن الخطاب مهم جداً، بل ربما كان أهم من كل الخطب السابقة، لأنه تضمن الخطوط العامة للبرنامج الوطني في المرحلة القادمة، ويبدو بالطبع بأن الرئيس عباس بات يفكر جدياً في تعبيد الطريق الوطني أمام المرحلة القادمة، التي قد لا يكون هو شخصياً قائداً لها، لذا فهي تحتاج لقيادة البرنامج أكثر من قيادة الشخص، ومن هنا، فإنه قال لشعبه، بأنه ليس هناك من مكان لليأس في القاموس الفلسطيني، فما دام الإسرائيليون مصرين على إغلاق الأبواب أمام حل الدولتين، فإن البديل بالنسبة للفلسطيني جاهز، وهو الكفاح السياسي وفق وعلى أساس القانون الدولي، الذي تأسس بناء على قرار التقسيم عام 1949، وأقر بحل الدولتين وفق ذلك القرار، كذلك ما دام الإسرائيليون يصرون على عدم وضع حد للاحتلال، فإن إسرائيل ستكون أمام فصل عنصري صريح.
المشكلة التي تواجه اليمين الإسرائيلي الذي ناصب الحل السياسي العداء، منذ انفتح أفقه في أوسلو، والرئيس محمود عباس هو أحد عرابيه، وحيث أن نظيره على الجانب الإسرائيلي قد مات بعد أن انهزم سياسياً لصالح عدو أوسلو، أي الليكود، فإن عباس ظل وحيداً يقاتل من أجل السلام بين الطرفين، رغم أن اليمين الإسرائيلي نجح جزئياً في الدفع بمعارض أوسلو على الجانب الفلسطيني، أي «حماس» لتقف في وجه السلطة، ثم تتقاسم معها الحالة الفلسطينية. أي أن تعقّل عباس الباحث عن السلام، يواجه عدو السلام، أي اليمين الإسرائيلي، ومشكلة إسرائيل حالياً هي مركبة من أكثر من مستوى، فهي على صعيد الحكومة، يمكن القول إنها حكومة انتقالية، فصحيح أنها وضعت حداً لبنيامين نتنياهو، ولتفرد اليمين بالحكم، لكنها بالكاد أشركت الوسط ممثلاً بـ «ييش عتيد»، وجنرالات الجيش، أما اليسار ممثلاً بحزبي العمل وميريتس فليس لهما أي نفوذ ولا صوت، وهما حزبان صغيران، وهكذا فإن الحكومة الحالية مثلثة التركيب، وقد بدأ يظهر عدم الانسجام بين أضلاعها، خاصة على صعيد الاتصالات الخارجية، ففي حين يظهر نفتالي بينيت كصورة عن نتنياهو، يحاول بيني غانتس أن يتقمص صورة اسحق رابين، جنرال الجيش الذي كان يمينياً في اليسار أو صقرياً في حزب العمل، في حين يظهر يائير لابيد على صورة شمعون بيريس، أي مهندس الحكم دون أن يكون هو رئيس الحكومة، وبعد أن فتح غانتس القناة مع الرئيس عباس من وراء ظهر بينيت، ها هو يتواصل مع نتنياهو، ربما ليذهب صوب رئاسة الحكومة في أول منعطف قادم.
الحقيقة أن حديث الإسرائيليين وتحديداً يائير لابيد عن أن المفاوضات تحتاج وقتاً، ربما يكون مبعثه أنهم يتمنون اللحظة التي تحل ما بعد أبو مازن الذي أرهق جنونهم بتعقله، والذي لو أنه واجه الجنون بالجنون، لوفر لهم الفرصة لحرق كل الأرض الفلسطينية، يابسها وأخضرها، لكنهم أيضاً هم مرتبكون، وغير قادرين على حسم أي أمر سياسي، فقد حققوا ما كانوا يجتمعون عليه وهو إسقاط نتنياهو، لكن ماذا بعد ذلك يمكن أن يجمع أشتاتهم، هناك الميزانية بالطبع.
المهم أن اليمين الإسرائيلي الذي ما زال كعقيدة سياسية يجلس على كراسي الحكومة، يعتقد بأنه يمكن للاحتلال أن يبقى، وهو لا يكلف نفسه عناء التفكير لحظة، ليس فقط في تجارب الآخرين، حيث لم تعدم فرنسا القوة في احتلالها الجزائر مدة 130 سنة، ولا أميركا افتقرت للقوة العسكرية ولا حتى للعميل الداخلي وهي تحتل فيتنام، ولا افتقرت أميركا للقوة وهي تحتل أفغانستان، ورغم أن لا أحد يحب طالبان ولا حتى شعبها، لكن الاحتلال لا بد أن يزول، وفي التجربة الإسرائيلية نفسها، نحن الآن أمام 53 سنة من احتلال إسرائيل للقدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا يساوي 74% من عمر إسرائيل نفسها، وما زالت إسرائيل نفسها لا تجرؤ أن تقول بأنها ليست قوة احتلال، أي أن كل هذه السنوات لم تجعل إسرائيل تقيم في الضفة الغربية مرتاحة البال ودون مقاومة.
والأهم هو أنه بعد أن كان كل شيء تهيأ بشكل استثنائي في ظل حكم اليمين المتواصل والمتحالف مع اليمين المتطرف_ كان بنتنياهو/الليكود رئيس الحكومة، وبينيت/يميناً وزير الدفاع، وكان دونالد ترامب وطاقمه الإنجيلي الصهيوني في البيت الأبيض، وكل الظروف العربية والإقليمية المعروفة وحتى الانقسام الفلسطيني، ورغم أن البيت الأبيض تورط بإعلان صفقة العصر، إلا أن عقل عباس السياسي أسقطها، وهذا يعني بأن فرصة ضم الضفة لإسرائيل أو خيار عدم انسحابها منها، أمران غير ممكنين بشكل مطلق.
هذا هو مبعث الهدوء المشوب بالثقة الذي ظهر عليه خطاب أبو مازن، فيما كان رد جلعاد أردان دالاً بشكل صريح على غباء إسرائيل، فالعالم على بعد خطوة من سحب إسرائيل من أذنيها لخارج الأرض الفلسطينية المحتلة، فهي إن كانت خارجة على القانون، تبقى داخل القوانين الطبيعية التي تحكم الصراع الكوني، ولن يطول الزمان كثيراً، حتى يلفظ المجتمع الدولي دولة الاحتلال الصريح، والذي بسببه ترتكب كل يوم جرائم الحرب، ويضع حداً للقهر السياسي الذي تمارسه يومياً، وها هي الإرهاصات تظهر في المجتمع الأميركي نفسه، مجتمع اكبر دولة مؤيدة وحامية لإسرائيل منذ نشأت وحتى اليوم.