جدّية المواقف الفلسطينية برسم الإثبات
في ردود الأفعال على مقالي: "ماذا يجول في عقل الرئيس؟"، لاحظت ثلاثة أنواع من هذه الردود:
الأول، مؤيداً، بأن ثمة مواقف محقة عبّر عنها الرئيس في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وثمة مواقف جديدة أصبح لا بد منها في ضوء ما وصل إليه الواقع من أزمة واختناق، جرّاء المواقف الإسرائيلية، والأميركية الخاملة والمتقاعسة والانتظارية، وجراء تقصير وتخاذل المجتمع الدولي إزاء الوصول إلى هذا الواقع، إضافة بطبيعة الحال إلى حالة التردي العربية وحالة العجز والانقسام والتنافر والشرذمة الداخلية الفلسطينية.
الثاني، رافضاً ومستنكراً، على اعتبار أن الهدف من المواقف الجديدة للقيادة الفلسطينية، ليس سوى "تهديدات" فارغة من المضمون، ومن القدرة على التنفيذ والتطبيق، وأن كل ما في الأمر لا يعدو كونه محاولة جديدة لمنع "الانهيار"، وليس أكثر من حالة "تخدير" للإبقاء على دور السلطة الفلسطينية، وليس أكثر من تكتيكات محددة "لشراء الوقت"، وغيرها وغيرها من الأفكار والمواقف والآراء.
أما الثالث فقد جاء متفهماً لضرورات ما جاء في الخطاب، بل ومؤيداً للتقديرات التي وردت في المقال حول منطق التفكير السياسي لدى القيادة الفلسطينية، مع ضرورة أن يقترن كل هذا المنطق الجديد بتحولات وتغيرات أصبحت راهنة وملحة، وهي الاختبار الحقيقي لمدى جدية الموقف، ولمدى صدق التوجهات والنوايا أيضاً.
وطبعاً لاحظنا كلنا أن ردود الأفعال في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي على الخطاب ومنطقه، وعلى المواقف الفلسطينية الجديدة كانت تنقسم وفق المواقف الثلاثة التي أوردناها أو تكاد.
أما إذا ذهبنا إلى ردود الفعل الرسمية على الخطاب الفلسطيني الجديد فماذا نلاحظ؟
محاولة تجاهل إسرائيلية، أو بعض التعليقات التي تحمل معاني الاستهتار والازدراء، صمتا أميركيا، خفوتا في الصوت الأوروبي الرسمي، و"حيادا" عربيا رسميا "مريبا"!
كل هذه الآراء وردود الأفعال ليست مستغربة أو خارج السياق والمنطق، بما في ذلك ردود الأفعال والآراء الفصائلية، الموالية والمعارضة. وكذلك تلك التي تتعلق بردود أفعال منظمات المجتمع المدني الفلسطيني وقواه الاجتماعية والأهلية والشعبية.
ليس فقط ليست مستغربة، وإنما يكاد يكون القاسم المشترك الأعظم بينها، (كل من زاوية رؤياه) هو أن الأمر ـ أي الموقف من المواقف الفلسطينية الجديدة ـ يتعلق، وسيتعلق، تماماً كما تعلق سابقاً، بمدى جدية القيادة الفلسطينية من ناحية السير قدماً في ضوء وهدي هذه المواقف الجديدة، وبمدى استعدادها ـ أي القيادة الفلسطينية ـ لتحمل مسؤولية هذا السير وتبعاته، وبمدى جاهزيتها لتحشيد الطاقات الوطنية وراء هذه المواقف بهدف شق طريق ومسار جديد يستجيب فعلياً لمتطلبات ومقتضيات هذا السير.
ليس هذا فقط، وإنما أبعد من ذلك، وأهم من ذلك ربما هو أننا نستطيع إذا امتلكنا إرادة القرار، والاستعداد لتحمل تبعاته أن نحشر المشروع الصهيوني في زاوية سيصعب عليه الإفلات منها.
لم يعد الأمر يحتمل خيارات غير خيار إسقاط الحل الإسرائيلي الذي ما زال يستند إلى الدعم المباشر من قبل الولايات المتحدة والغرب، وغير المباشر من خلال الصمت والسكوت عن الجرائم الإسرائيلية بحق شعبنا، وبحق القانون الدولي، وإلى حالة التردي العربي والحالة الوطنية البائسة من التشرذم والهشاشة والانقسام.
من أين يبدأ مشروع إسقاط الحل الإسرائيلي، والذي يمثل في الواقع المرحلة الأولى والتأسيسية لإسقاط المشروع الصهيوني نفسه؟ الحل يبدأ من فلسطين وليس من خارجها، والحل يبدأ بالحالة الوطنية الفلسطينية وإصلاحها وترميمها وإعادة استنهاضها، وليس من أي حالة أخرى.
والحل إذا أُريد له أن يكون حقيقياً فهو سيكون أبعد ما يكون عن الحلول الترقيعية، أو الإصلاحوية أو الالتفافية المواربة، والحل يبدأ بحوار وطني مؤسسي.
ما هو الحوار الوطني المؤسسي؟!
الحوار المؤسسي هو الحوار الذي يدعى إليه بصورة رسمية من الرئاسة الفلسطينية للفصائل السياسية الفلسطينية دون استثناء، وإلى كل منظمات المجتمع المدني الفاعلة، وكذلك الشخصيات الوطنية المستقلة بما في ذلك مؤسسات وشخصيات من الداخل، على أساس جدول أعمال، وآليات حوار ومناقشة، وآليات التوصل إلى القرارات والتوصيات، وآليات متابعة لهذه القرارات مع المؤسسات صاحبة الصلاحيات.
والحوار المؤسسي وما ينتج عنه يتم رفعه إليها حسب الأصول، أقصد أن الحوار يجب أن يسبق انعقاد المجلس المركزي، خصوصاً وأن نجاح الحوار يمكن أن يؤدي إلى مشاركة وطنية واسعة في دورة المجلس المركزي بدلاً من أن يتم وضع "قرارات" المجلس المركزي في "تناقض" محتمل مع نتائج الحوار المؤسسي.
بالتوازي مع هذا الحوار يفترض أن تشرف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على وضع إعادة دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية موضع الإقرار التفصيلي النهائي، وترفعه للمجلس المركزي لإقراره. أقصد أن الترتيبات التنظيمية لشؤون المنظمة، وإعادة تفعيل دورها وإصلاحا جذريا وحقيقيا لمؤسساتها ودوائرها يجب أن تبدأ من خلال المؤسسات الشرعية للمنظمة، وبمعزلٍ عن دخول أو عدم دخول حركتي "حماس" و"الجهاد" إليها، لماذا؟ لأن المنظمة يجب أن تصلح أولاً، ويجب أن تفعّل ثانياً، ويجب أن تتحول إلى قائد فعلي للحالة الوطنية ثالثاً، وحينها فقط تُنتزع كل الذرائع من كل الذين يتذرعون "بواقعها البائس" للتنصل من الدخول إليها، أو عمل كل ما هو "متاح" لخلق أجسام بديلة أو موازية لها، أو حتى التواطؤ مع جهات خارجية أو داخلية ضدها.
الحوار الوطني مطالب بتحديد موقف معلل من تطورات الحالة السياسية وتحويلاتها وبرنامج العمل المطلوب وأسس بناء الاستراتيجية الجديدة.
في حين أن حوارات المنظمة تنشد ترتيب الأوضاع الداخلية، وإعادة تفعيل النظام السياسي من خلال عملية ديمقراطية شاملة على كل المستويات.
هل توجد فرصة حقيقية لتوجهات كهذه؟
الجواب: نعم. كيف؟:
أولاً، إسرائيل تعيش أزمة خانقة مع القانون الدولي.
ثانياً، سياساتها أدت إلى تحويل أزمتها مع القانون الدولي إلى تحولات كبيرة في العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة (الحزب الديمقراطي ومنظمات كبيرة من المجتمع المدني الأميركي) ومع حزب العمال البريطاني وهو من أكبر وأهم وأعرق أحزاب أوروبا، والحبل على الجرّار.
هذه مجرد بدايات والعملية تزداد وتتعمّق كل يوم، وفي نهاية المطاف ستجد هذه التحولات صدىً لدى الدول وستفرض نفسها على الواقع السياسي.
ثالثاً، فشل التطبيع فشلاً ذريعاً ومؤشرات الفشل ما زالت في بدايتها، والتطبيع سينهار انهياراً شاملاً مباشرةً إذا استعادت الحالة الوطنية الفلسطينية عافيتها.
رابعاً، أثبتت هبّة الشيخ جرّاح أن شعبنا موحّد حول حقوقه وأهدافه، وأنه شعب واحد، وهوية وطنية واحدة، وأهداف وطنية مشتركة، وكل من حاول ويحاول وسيحاول تغيير هذا الواقع أو العبث فيه سيكون قد جنى على نفسه، لأن شعبنا يعتبر أهدافه وحقوقه وهويته وروايته ومصيره أمرا واحدا، ولا يوجد له مصائر وهويات ومصالح خارج نطاق القضية الوطنية التي تعبر عن وحدة هذه المكوّنات.
دون بناء نموذج ديمقراطي حقيقي، يسود فيه مبدأ سيادة القانون، ويفصل فيه بين السلطات، ودون نموذج الحريات والتنافس الديمقراطي، لا مجال لإنقاذ الحالة الوطنية ولا لإعادة بناء هذه الحالة.
هل نحن أمام مهمات ومسؤوليات بهذه الضخامة، أم نحن أمام محاولات ترقيع الواقع؟
هذا هو سؤال المرحلة؟ وعليه سيتحدد مصيرنا الوطني في هذه المرحلة الفاصلة من التاريخ.