إسرائيل التي لا تطاق
مقالات

إسرائيل التي لا تطاق

في خطابه بالكنيست بعد نيل الثقة بالحكومة الإسرائيلية الحالية، تحدث رئيسها نفتالي بينيت عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي قائلاً، بأنه سيعمل على تخفيض الاحتكاك وتقليص النزاع، ورغم أن السياسة التي يدل عليها هذا المصطلح السياسي ليست جديدة، بل هي معلنة منذ عقود، أي منذ تولى اليمين الحكم بشكل متتابع في إسرائيل، بعد الفاصل اليساري في الحكم، الذي جاء عقب الانتفاضة الأولى، وأفضى إلى توقيع اتفاقية إعلان المبادئ في أوسلو، ومفادها عدم التوصل لحل سياسي، وإدارة الصراع من قبل إسرائيل، مع الاستمرار في تغيير الحقائق على الأرض، حتى تكون في يوم ما قد جعلت من إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية أمراً مستحيلاً، إلا أن المصطلح نفسه كان جديداً، وهكذا صار متداولاً منذ نحو أربعة أشهر وحتى الآن، ويمثل عملياً الناظم العام لسياسة الحكومة الائتلافية، المتشحة بكل ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي على اختلافها.
بالطبع، فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تشكلت فيها الحكومة الإسرائيلية الحالية، كذلك ما يحيط بها من علاقات سياسية إقليمية ودولية، فهي أولاً جاءت بعد شلل سياسي دام عامين في إسرائيل، ذهبت خلالهما دولة الاحتلال إلى أربع جولات انتخابية لم تكن حاسمة، لذا ورغم المسار العسير لولادة هذه الحكومة التي أطاحت بحكم اليمين المنفرد، وإسقاط بنيامين نتنياهو، إلا أن البديل لم يكن مختلفاً تماماً، أي لم يكن يسارياً، بل إن رئيس الحكومة نفسه إنما هو يميني أكثر من سابقه، فإذا كان نتنياهو رئيس حزب الليكود اليميني التقليدي، فإن بينيت جاء للكنيست وهو رئيس «يمينا»، ومن قبل كان رئيس البيت اليهودي، وقبل أن يدخل الكنيست كان رئيس مجلس الاستيطان «يشع»، ثم لا ننسى بأن تشكيل هذه الحكومة جاء مباشرة بعد آخر جولة مواجهة بين إسرائيل وفلسطين، التي اندلعت في كل أنحاء فلسطين التاريخية، ارتباطاً بالإجراءات الإسرائيلية العدوانية في القدس، والتي توجت بالمواجهة العسكرية على جبهة غزة.
ثم أنها تشكلت بعد أن حدث التغيير في الإدارة الأميركية، أي أنها كانت مجبرة على إحداث تغيير ما، وما كان بإمكانها إلا أن تغير اللهجة فقط، فيما هي تقاتل من أجل عدم حدوث أي تغيير حقيقي على الأرض، خاصة لجهة إطلاق العملية السياسية، التي من شأنها أن تبقي على حل الدولتين ممكناً، وذلك من خلال منع الإجراءات أحادية الجانب، التي من شأنها تغيير الواقع على الأرض، أو جعل ذلك الحل غير ممكن.
ينسب المراقبون مصطلح «تقليص النزاع» لمستشار بينيت الأكاديمي الإسرائيلي ميكا غولدمان، الذي كان واضحاً في تفسيره لما يقصده بهذا المصطلح الذي يمثل عملياً جوهر سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية تجاه ملف الصراع مع فلسطين، وذلك في مقابلات صحافية أجراها مع الصحف الأميركية «ذي اتلانتيك» و «نيويورك تايمز»، حيث قال إن تقليص الصراع لن يحل أو ينهي النزاع، لكنه سيؤدي إلى احتوائه، وسيوسع حرية الحركة للفلسطينيين وحريتهم بالتنمية والازدهار، وترجمة كل ذلك بما نراه هذه الأيام من إجراءات على هذا الصعيد.
يظن الإسرائيليون الذين ما زالوا تحت وطأة سياسات اليمين الاحتلالي العنصري، بأن الدافع الفلسطيني للمقاومة هو معيشي، وأنه إذا ما تحسنت ظروف حياتهم المعيشية يمكن لهم أن يقبلوا بالعيش إلى الأبد في ظل دولة عنصرية تمنع عليهم أبسط الحقوق السياسية في اختيار الحكم، وإسرائيل بذلك تريد أن تبقي على الشعب الفلسطيني أسير الاحتلال الأجنبي، حيث لا هم مواطنو دولته ولا هم مواطنو دولتهم الخاصة، وإذا لم يكن هذا تمييزاً عنصرياً، فماذا يمكنه أن يكون؟!
بهذا الشكل تعيش إسرائيل في عالم آخر، وكأن الكون ما زال جُزراً منفصلة، أو أنه ما زال يعيش في عصر الاستعمار القديم، أو حتى في ظل الحرب الباردة، ومن هنا كان تحذير الرئيس محمود عباس، والذي بجوهره، يعني بأن الوقت قد شارف على الانتهاء، فيما يخص حل الدولتين، حيث أن إغلاق الباب نهائياً أمام هذا الحل، لن يعني سوى العودة لمربع الصراع الأول، لأن الحالة ستتحول من خانة الاحتلال إلى خانة الدولة العنصرية، فإسرائيل التي ترفض الفصل وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، تريد أن تبقي على نحو خمسة ملايين فلسطيني يعيشون في وطنهم دون مستوى الحياة الطبيعية للبشر، فلا هم مواطنون متساوو الحقوق في «دولتها»، ولا هم مواطنون أحرار في دولتهم.
ثم ما يزيد الطين بلة، هو أن الحكومة الحالية التي ما زالت تسير على طريق اليمين، فيما يخص هذا الملف بالتحديد، هو أنها تنسى أن تأجيج الصراع، ينجم عن إجراءاتها اليومية، إن كانت تلك الخاصة باعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم، أو عن عمليات الإعدام اليومي، أو عن التطهير العرقي في القدس خاصة، والأخطر عما تفعله في الأماكن المقدسة في القدس والخليل وحتى نابلس.
وهنا يرفع السؤال رأسه عاليا، للقول: هل يعني إقرار المحكمة الإسرائيلية السماح لليهود بالصلاة الصامتة في باحات الحرم القدسي الشريف، تقليصا للنزاع، أو تقليلا منه، أم أنه على العكس من ذلك تماما، يعني تأجيجه وصب الزيت على النار؟، وهل تعني الملاحقات الأمنية في طول وعرض الضفة الغربية تقليصا للنزاع؟، وهل يعني الإبقاء على حصار غزة بشكل مطبق تقليصا للصراع؟!
أي أن الحكومة المرؤوسة باليمين تقول شيئا وتفعل شيئا آخر، وحتى ما تقول به من تقليص للصراع ليس صحيحاً، ولهذا فإن استمرار إسرائيل بالسير على طريق اليمين المتطرف والفاشي، يجعل منها دولة لا تطاق بالنسبة للشعب الفلسطيني، وهي بالكاد، كدولة محكومة بيسار مدني وليبرالي، تسير على طريق قبول الآخر، يمكن الحديث عن احتمال قبول التعايش معها في المنطقة، أما هكذا فإنها ستظل «دولة» غير قابلة للقبول، وحين تفشل السياسة في التوصل لحل وسط، فإن التاريخ سيحكم عليها بالتلاشي، لأنها ستظل هكذا جيش احتلال أجنبي، وقد جرّب الفلسطينيون على نحو خاص ربع قرن من سياسة حكم اليمين الإسرائيلي ووصلوا إلى حالة من عدم الاحتمال، وقد ضاقوا ذرعا، وليس أماهم سوى اليأس وهذا يعني إطلاق العنف من عقاله، أو التمسك بالأمل، بفرض السلام العادل على إسرائيل باللفظ السياسي ليمينها المتطرف العنصري.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.