مشاهدات في القدس
لا أحب أن أخوض في موضوع القدس من باب الانفعال وردة الفعل على موضوع توالت أحداثه تحت لافتة (أسرلة القدس) واستمرت الخطط والمحاولات، وبتنا نحن انفعاليين فقط، ولا أحب الخوض في موضوع القدس من باب الشعر والعاطفة على أهميتها.
الأسبوع الماضي ذهبت صوب القدس لغرض مراجعة طبية في أحد مستشفياتها وهو مستشفى سان جون للعيون، ولا بد من الإشارة للاهتمام المميز بذلك المستشفى، وكأنك تراه بترتيبه ونظامه وعنايته الفائقة كما اعتدنا عليه دون أي تراجع بالمطلق، وأروع ما يكون الحرص على حقوق المريض المثبتة بلافتة واضحة بخط واضح وكبير ومتابعة حثيثة من طاقم الأطباء والتمريض والتسجيل، تشعر هناك أنك مريض صاحب حق ولست مراجعاً ثقيل الظل على الجميع.
وهذا المشهد الجميل تسبقه مشاهد التنغيص الماثلة في هذا الاعتداء على مطار القدس، بحفر ساحته وتغيير واقعه في ظل صمت غير مسبوق، باستثناء بعض الحديث عبر الإعلام عن الصحف وتفاصيل ما ينوي الاحتلال تنفيذه هناك، ومن أين يبدأ بالضبط وأين يؤدي، وهذا الموضوع ليس جديداً، وأذكر أنه في العام 2013 أُعلنت تفاصيله بالكامل تزامناً مع إعادة تأهيل طريق في المنطقة ذاتها، وتعاملنا مع الموضوع بالنفي وأن الطريق شيء والمشروع الاستيطاني التوسعي في مطار القدس شيء آخر، ومنذ ذلك اليوم الى الآن ونحن نعرب عن قلقنا واستهجاننا وأحياناً غضبنا، وها نحن نرى المشروع على الارض بهدوء وصمت.
وحتى لا نغبن الناس موقفهم نتذكر عندما قامت لجان المقاومة الشعبية باقتحام أرض المطار ورفع العلم الفلسطيني هناك والصمود لوقت طويل بصورة مفاجئة أذهلت العالم آنذاك، وهذا الجهد الشعبي تُرفع له القبعات، ولكننا اليوم نرى أن النتيجة حفارات وبلدوزرات وشاحنات تعيث في أرض المطار تدميراً وتغييراً لمعالمه، رغم أننا نمتلك وثائق أن المطار حاضر بقوة، ولدينا قصص من أشخاص ما زالوا أحياء يحكون حكايتهم كيف سافروا عبره وعادوا من خلاله.
وتستمر الرحلة في القدس لترى حجم التغيرات التي وقعت وتقع في القدس ضمن مخطط الأسرلة، تدخل عبر باب العامود لتجد أن الناس هناك وبعض الوجوه تعرفها منذ الثمانينات ما زالوا في متاجرهم وفي زواياهم، ولكنك تجدهم يجلسون ينتظرون متسوقاً أو يجدون مجموعة تسير معاً في القدس لتمتع ناظريها في المكان والناس، مازال محل الحلويات والعصائر الطازجة ومطاعم الفول والحمص ومطاحن البن والزعتر والحلويات التي نسميها (حييا)، وأقراص الصفيحة من الفرن، والكعك بسمسم، ومعامل الطحينية، ومحلات السنتواري، وباعة الملابس، ولكن حكايتهم اليوم مختلفة تماماً تقطر بالألم من شح المتسوقين والأعباء المترتبة عليهم لبلدية الاحتلال وغيرها.
تصل المسجد الاقصى المبارك فتجد الاشخاص جالسين قرب الباب الرئيس الذي دخلتَ منه ينتظرون الأذان في الظل وعلى الكراسي، وتسير صوب المسجد لتدخل بيسر دون تدافع لتصل لغاية المنبر وتصلي ركعات سنة المسجد وتزيد، وتبقى تنتظر الأذان على المنصة المرتفعة كان يصعد عليها مؤذنون مميزون بأصواتهم، فإذا بوجوه جديدة تصعد وما زال الصوت مرتفعاً ومميزاً، وتنتظر بلهفة صعود الخطيب الى المنبر وفي ذهنك صعود مختلف عن بقية المساجد، وتنتظر محتوى مختلفاً للخطبة يتوازى مع مكان المسجد، وتصلي بخشوع وتستمتع بإصغاء لتلاوة القرآن، وتطيل البقاء بعد الصلاة وتخرج لتبحث عن وجوه تحب أن تراها تحت هذه الشجرة بالقرب من هذه المصطبة.
تخرج من باب السلسلة لتجد عدداً من أفراد شرطة الاحتلال يراقبون الباب وينظرون، ومجندة تقف على درَج وتقوم بحركات استفزازية لمشاعر المصلين الخارجين من المسجد، تسعد بالمشهد كيف يتدافع الناس على الفرن الذي يخبز أقراص الصفيحة على اعتبار انها مقدسية مختلفة تماماً، وآخرون صوب محلات العصائر، والعشرات صوب معمل الطحينية والسيرج والكسبة، وفي سوق العطارين تعج المحلات بالناس ليبتاعوا البهارات التي اعتادوا عليها من هذا السوق، ولم أشاهد أياً من الذين كانوا يذهبون صوب سوق اللحامين لشراء الفوارغ المنظفة والجاهزة التي امتاز بها هذا السوق لسنوات، وتلتقي بأشخاص تعرفهم جاؤوا لشراء السكاكر والحلقوم يلبسون الكمامة ويبتاعون ما يريدون لأطفالهم وأحفادهم وحتى للكبار، ولا بد من تعريجة الى حلويات جعفر لتأكل الكنافة على الواقف في ضوء انشغال كافة الطاولات وتوالي إخراج صواني الكنافة لتلبية طلب الزبائن.
وفي المسار التقيت الشباب الذين يسرعون المسير لأنهم مرتبطون بنشاط (مهرجان الخريف) في باب الجديد والذي يتضمن عروضاً فنية وأخرى تكنولوجية وبسطات للبيع والعروض في محاولة لإحياء المنطقة، وتنظيم نشاطات متميزة فيها، فتفتح أبواب مدرسة الفرير ومدرسة الراهبات ويندمج أصحاب المحلات بالنشاط، كنت منهكاً بعد الفحص الطبي والسير الطويل على الأقدام، وآثرت المغادرة صوب الباصات لأعود مبكراً.
طبعاً لا تخلو رحلة الباصات من تنغيصات احتلالية تتمثل بوقوف الباص والصعود للتفتيش والتدقيق.
بالنسبة لي القدس كانت مشواراً يومياً وأعرف تفاصيلها، ولكنها اليوم يُفرض عليها التغير، وما زلنا بحاجة لصياغة موقف واضح المعالم لحماية حقنا في القدس شعبياً وفصائلياً ومؤسساتياً، بدلاً من أن نلقي باللائمة على بعضنا البعض.