فلسطين على موعد مع الوجع في موسم الجوع الكبير
مقالات

فلسطين على موعد مع الوجع في موسم الجوع الكبير

اكتب مقالتي في وقت يعاني فيه سبعة أسرى فلسطينيين ادارييين مواجع اضراباتهم عن الطعام، الذي بدأه بعضهم قبل أكثر من خمسين يومًا؛ بينما قطع فيه الاسيران، كايد الفسفوس ومقداد القواسمة، حاجز الثمانين يومًا، وباتا يواجهان، وفق جميع التقارير الطبية، امكانية الموت الفجائي أو اصابتهما بأضرار جسدية لا يمكن معالجتها في المستقبل.
لا أعرف كيف سينهي الأسرى إضراباتهم؛ فشرط كل واحد للتوقف عن اضرابه هو أن ينال حرّيته، أو، في أسوأ الخيارات، أن تتعهد قوات الامن الاسرائيلية بتاريخ محدد للافراج عنه، على أن يكون قريبًا من ميعاد انتهاء مدة أمر الاعتقال القائم.
كنت نوّهت في الماضي الى أن الاعتقالات الادارية بحق الفلسطينيين تعتبر احدى ممارسات الاحتلال الخبيثة والقاهرة، لا لأنها لا تحترم حقوق الانسان الاساسية ولا تتيح للأسير فرصة نزيهة للدفاع عن نفسه، وحسب، بل لأنها تترك الأسير في حالة من الغموض والقلق المنهك، اذ أنه لا يعرف موعد الافراج عنه؛ فالقانون العسكري يسمح، عمليًا، لقائد جيش الاحتلال تمديد اوامر الاعتقال بحق أي أسير أداري لمدد غير محدودة، على ألا تتجاوز مدة الأمر الواحد فترة الستة شهور. ولقد أعتقل عشرات المواطنين الفلسطينيين إدارياً لعدة سنوات من دون أن تقدم بحقهم لوائح اتهام وبدون مواجهتهم ببيّنات مكشوفة وواضحة ؛ ولقد صادق قضاة المحاكم العسكرية والمحكمة العليا، بشكل روتيني، على اوامر الاعتقال طيلة سنوات الاحتلال.
قمت بزيارة الاسير مقداد القواسمة الذي يرقد في مستشفى “كابلان” في “رحوبوت” مؤخرًا؛ وذلك بعد أن قضت “المحكمة العليا الاسرائيلية” بتعليق امر اعتقاله الاداري نظرًا لخطورة حالته الصحية التي بسببها يبطل اعتباره “خطرًا” على أمن “المنطقة” وسلامة الناس. نقلت اليه آخر تطورات قضيته وشرحًا عن آفاق تحرّكي القانوني المنتظر؛ علمًا بأنه، وفق التطور الأخير، لم يعد أسيرًا بالمعنى التقليدي للكلمة، ولم يصبح مريضًا بالمعنى المألوف للبشر؛ فقرار قضاة المحكمة العليا حوّله إلى “أسيض” (نحت من كلمتي أسير ومريض)، وهي حالة استحدثتها قواميس الاحتلال الاسرائيلي، حيث يمكن تطبيقها على الفلسطينيين اذا ما قرروا أن يواجهوا، بأمعائهم الخالية، ارادة السلطان، وأن ينشدوا حريتهم وهم على حد “الظبات”.
كان ضعيف الجسد بشكل مقلق. سمعني، بعينين سوداويتين مفتوحتين، لكنه لم يقو على الكلام. أدنيت منه وجهي كي اسمع ما يحاول أن يقوله، فوجدت بين الانفاس اصرارا، وعند كل وقفة أملًا ووصية بألا أنحني. قلت له: لكنك تنشد الحياة؛ فنقل كفه ببطء وألقاها على كفي، فشعرت بحرارة وبرعشة وطلبت منه أن ينزل الكمامة عن وجهه، فأنا أومن بالابتسامات، لغة الروح للروح، ففعل، فساحت أمامي بقايا صبح خليلي متعب.
حاولت أن أطمئن والديه بما اسعفني الحال؛ لكنّهما يعرفان أن حالته الصحية حرجة. حدثاني عن شعورهما بعدائية الناس وبعض أفراد طاقم المستشفى، خاصة بعد أن ذاع خبر اتصال الشيخ اسماعيل هنية بهما للاطمئنان عن صحة المقداد، وبعد نشر صور ممرضين عربيين وهما يحتضنانه برفق وبمحبة. كنا خارج الغرفة وكنت أتأهب للسفر لزيارة عيادة سجن الرملة، حيث يرقد فيها كل من: هشام ابو هواش، وعلاء الاعرج، وشادي أبو عكر ، ثلاثة فرسان رفعوا جوعهم سيوفًا في وجه الظلم، ومضوا يذيبون أجسادهم مشاعل على طريق قوافل الحرية والفخار. فاتحتني “أم مقداد”، وقالت: “أوجاعه تزداد وأنا يزداد قلقي وتزداد حسرتي عليه. فأنا لا أريد أن يسجل انه خاض أعلى اضراب عن الطعام ، بل اريد أن انقذ ابني كي يرجع الى بيتنا ويأكل من يدي..” سمعت كلامها فحزنت وتذكرت أمي ، وكم أكره منصات الرياء واجترار الشعارات عند الخطباء والمتاجرة بجوع وبمعاناة العظماء .
قد تشتبك تداعيات عملية السادس من ايلول المنصرم وهروب الستة أسرى من سجن “الجلبوع” مع قضية الاضرابات الشخصية التي يخوضها في هذه الايام ، كما ذكرت، سبعة من الاسرى التي تنتمي أكثريتهم لحركة الجهاد الاسلامي، ويشارك معهم عناصر من حركتي “فتح” و”حماس”.
فلقد قرأنا يوم الاربعاء الفائت، بيانًا صادرا عن أسرى حركة الجهاد في سجون الاحتلال أعلنوا فيه عن شروع “مجاهدي الحركة” بالاضراب المفتوح عن الطعام في كل السجون من الشمال الى الجنوب. سيكون عنوان الاضراب، كما أعلنوه: “معركة الدفاع عن ارث الحركة الاسيرة وبنيتها التنظيمية”، وهو عنوان لافت لخطوة جريئة تستدعي المتابعة والتحقق من مآلاتها ومدى نجاح المبادرين في تطبيق ما أعلنوه من خطوات تصعيدية، وردت في البيان.
لن أتطرق، في مقالتي اليوم، الى مضمون البيان وتبعاته الممكنة المستقبلية؛ فعلينا الانتظار لما ستفضي اليه الايام القادمة، وبعدها سأعود لأتناول ابعاد هذه الخطوة وتأثيراتها الممكنة على الحالة السياسية الفلسطينية العامة وعلى واقع الحركة الأسيرة، التي تعاني من خلل جسيم لم يعد السكوت عنه ، كما يبدو، ممكنًا.
والى أن نعود إلى أصداء البيان سألفت النظر الى ما جاء في البند الخامس منه حيث نودي فيه الى ضرورة “انهاء الاعتقال الاداري للاخوة المضربين اداريًا”. انه مطلب طبيعي لم يكن بمقدور أحد القفز عليه، بيد انني اعتقد ان المبادرين لهذه الخطوة كانوا قد تنبهوا وقد أخذوا بالحسبان ان تضمينهم لهكذا مطلب، في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها المضربون السبعة، ليس بالضرورة سيكون في صالح المضربين، بل قد يعقد قضيتهم ويؤخر حلها، خاصة اذا أصرت “لجنة الاضراب” على تحقيق جميع مطالبها الستة الواردة في البيان كشرط للعودة عن خطوتهم.
وصلت ساحة سجن الرملة في تمام الساعة الواحدة. دخلت، فاستقبلني سجان ، مهاجر روسي يجيد لغة الروبوطات الآدمية، فطلب مني أن أتوجه إلى شبّاك الاستقبال لأسلم بطاقتي وهاتفي ومفاتيح سيارتي. خلف الشباك جلس سجان عربي كان يعرفني، من زياراتي السابقة، فحيّاني بترحاب لم يستحسنه المهاجر ، كما فهمت من حركات عظام رقبته. وضعت كل ما عليّ في حاوية صغيرة وادخلتها ماكينة الفحص وتوجهت نحو بوابة، تشبه مسخًا لقوس نصر بلاستيكي، مزنرة بمصابيح حمراء كانت كلّها مطفية، فما أن “دعست على طرفها ” حتى بدأت تصفر بأصوات مجنونة. تراجعت الى الوراء، فقفز السجان المسؤول عن ترويض الآلة وسألني بغضب: هل تلبس حزامًا؟ لم ينتظر الاجابة، فأمرني بازالته وأن أخلع حذائي وادخالهما في بطن ماكينة الفحص.
انتهت عملية التفتيش بسلام ؛ فمضيت بصحبة المهاجر نحو العيادة. كان ودودًا بهدوئه وكمامته السوداء التي تغطي اكبر مساحة من وجهه الأبيض. كان صدره منفوخًا كصدر رياضي محترف وشعره قصيرًا كملاكم. فجأة، سمعته يقول لي بصوف خافت:”قد لا نستطيع دخول العيادة الآن، فلقد علمت أن أحد المساجين قد توفي أو سقط هناك قبل لحظات وهم يحاولون انعاشه..” قالها ببرودة لطيفة واستمر بمشيه. كتمت أنفاسي مستعدًا للصراخ، فنظر الي فشعرت أنه لا يكذب علي.
وقفت أمام باب العيادة سيارة اسعاف صفراء وحولها عدد من ضباط مصلحة السجون. توقفنا أمامهم فتعرّف علي أحدهم، وهو ضابط صرح أمام زملائه، بنوع من الغبطة، أنه يعرفني منذ ثلاثين عامًا. رحّب هذا الضابط بحضوري لكنه اعتذر مباشرة لأنني لا استطيع الدخول ..فهناك ملقاة جثة اسير كان قد توفي قبل دقائق معدودة؛ ثم اردف، بنبرة مطمئنة: انه جنائي، وليس من أصحابك !
أرجعوني إلى قاعة الدخول، فانتظرت فيها ساعة. جاء بعدها، كما وعدوني، مرافقي، فادخلني الى غرفة المحامين. لاحظت أن سيارة الاسعاف الصفراء ما زالت واقفة على مقربة من مدخل العيادة. سألت مرافقي عنها، فأدار ذراعيه بحركة فهمتها : الاجدر بك ألا تسأل.
طلبت احضار الاسير علاء الاعرج فأفادني الضابط المسؤول بأنهم نقلوه في نفس اليوم الى احد المستشفيات المدنية لاجراء فحوصات طبيه. فطلبت الأسيرين هشام أبو هواش وشادي ابو عكر. جاءاني يجرّهما سجّان على كرسييين متحركين، فهما، بعد خمسين يومًا من الاضراب عن الطعام، لا يستطيعان المشي كل تلك المسافة. زرت كل واحد منهما على حدة من خلف زجاج بارد وسميك. كان صوتهما عبر الهاتف منخفضًا وبطيئًا. لقد اشتكيا من اوجاع في الرأس والمفاصل ومن ضعف في الذاكرة وفي القدرة على التركيز. كانا يتقيآن باستمرار لأنهما لا يشربان إلا قليلًا من الماء . طمأنتهما على العائلة، وأوجزت لهما آخر التطورات مع النيابة العسكرية ووعدتهما بأن أتابع مع جميع الجهات عساني أنجح بالتوصل إلى حل يرضيان عنه؛ فهما مثل باقي زملائهما يصران على نيل حريتهما والعودة الى عائلاتهم بكرامة. لم آت معهما على ذكر فكرة الاضراب الكبير، فهذه قصة تحتمل التأجيل .
تركت العيادة وسيارة الاسعاف ما زالت واقفة في مكانها؛ وتذكرت انهم كانوا ينتظرون حضور وحدة التشخيص الجنائي لتنهي فحوصاتها الميدانية قبل نقل الجثمان. ثم فهمت، وأنا في الطريق الى خارج السجن، من احد السجانين، انهم ما زالوا ينتظرون وصول تلك الوحدة .
أدرت ذراعيّ، مقلّدًا حركة مرافقي المهاجر، ولم تصبني القشعريرة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.