عروق الذهب..!!
سألنا، قبل أسبوع، كيف تمكّنت عراقية، حظيت بكل الامتيازات المُحتملة في بغداد صدّام، من التعبير بنجاح عن انسحاق كينونة الإنسان في ظل نظام فريد من أنظمة القمع؟ أعتقد أن الجواب غير المتوقّع، والأقرب إلى الواقع: لأنها لم تقصد ذلك.
كل ما في الأمر أن زينب سلبي، التي أنشأت جمعية تديرها نساء لمساعدة نساء تعرّضن لأشكال مختلفة من العنف، بما فيها الاغتصاب، اكتشفت جدوى ومعنى الحكاية الشخصية، بعد طول مراوغة وكتمان، وتجربة ميدانية مع نساء أُخريات، وإدراك ما للحكايات الفردية والخاصة من فوائد علاجية بالمعنى الشخصي، وما لها من تأثير بالمعنى الاجتماعي والسياسي العام.
أجد ما يبرر الكلام، أيضاً، عن دور الصحافية والكاتبة الأميركية لوري بيكلوند، التي أسهمت مع سلبي في تأليف الكتاب. فتجربة شخص ما (رجل أو امرأة، لا فرق)، مهما كانت فريدة واستثنائية، لا تنطوي على ضمانة مسبقة بالنجاح، خاصة إذا لم تكن الكتابة مهنة صاحب التجربة، وإذا جاءت بغير اللغة الأم.
لن يتمكّن أحد، بصرف النظر عن الكفاءة والمؤهلات، من تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، كما نعرف. ولو لم تتوفر عروق الذهب في حكاية زينب، وخامتها الأصلية، لما تجلّت حكايتها كشهادة بالغة الخصوصية والصدق عن بؤس الإنسان.
وهذا يصدق، أيضاً، على شهادة ناديا مراد (عقّبت عليها في هذه الزاوية قبل سنوات) العراقية، اليزيدية، التي سباها الدواعش، وتداولها بالبيع والشراء أكثر من واحد منهم.
ولعل أهم عروق الذهب في حكاية زينب أنها شخصية وعائلية، تماماً، وأن فيها من الظلال، والزوايا المُعتمة ما يترك الكثير للخيال، مقابل القليل من السياسة بالمعنى العام للكلمة. تتجلى الحكاية، هنا، في سياق استعادة ذكريات بصرية سكنها، وما زال، خوف غير مفهوم، في مكان يفيض به، ويسري فيه، كالصدى والرائحة.
وبما أن الحكاية شخصية وعائلية، فمن الطبيعي أن تتخلّق في جغرافيا البيت، حيث يُمثّل الأبوان بوصلة ووسيلة إيضاح أولى، وأن تتجلى كمشاهد بصرية بعيون طفلة تسترق النظر إلى دنيا يقيم فيها، ويُهيمن عليها، حاضراً وغائباً "العم" صدّام.
من أسماء "العم" صدّام السيد الرئيس، أيضاً، وهو شخص تراه على شاشة التلفزيون، وتحتفل مع زملائها في المدرسة بعيد ميلاده، وتقدّم له القهوة في البيت، ولكن لا يحق لها الكلام لأحد، خارج البيت، عن زياراته الليلية، في الغالب، إلى بيت العائلة، ولا تفهم مبررات ما يعتري الأبوين من قلق وتوتر، ولا تنجح في تفسير ما يتبادلانه من همس ونظرات غامضة.
ومع هذا، لا تفهم البنت التي تسترق النظر إلى العالم، دوافع ما ينشب من شجار بين الأبوين، ولجوء أمها إلى الحبوب المنوّمة، ومحاولة الانتحار، والمحاولات المتكررة لإقناع الأب بمغادرة العراق. ولكنها تُدرك، من البداية، بطريقة غامضة، أن للأمر صلة "بعمّو" صدام، الذي فهمت، من أمها أنه فرض "صداقته" على العائلة منذ أوائل السبعينيات.
في الكتاب مشاهد كثيرة عن ويسكي صدّام الاسكتلندي، وسهراته الليلية، وعلاقاته النسائية. وأعتقد أنها قد تثير الاهتمام. ولكن هذا لا يعنيني، فالمهم أن "الصداقة" التي فرضها صدّام على عائلات من طبقة بغداد العليا تُحيل إلى التناقض بين كراهية الراديكاليين العرب، الذين استولوا على السلطة في بلدان مختلفة، للطبقات التي كانت رافعة اجتماعية لأنظمة سياسية انقلبوا عليها، وافتتانهم بتلك الطبقات، واشتهائهم لها، ورغبتهم في محاكاتها وإذلالها في آن.
هذه علاقة معقّدة، نعثر على تجلياتها في كل الجمهوريات الراديكالية، وثمة ما يماثلها في اشتهاء حكّام وسكّان الهوامش الصحراوية للحواضر في العالم العربي، وكراهيتهم لها، وغيرتهم منها، ورغبتهم في إذلالها. ولهذا كله، في الحالات الراديكالية، والصحراوية، تجليات جنسية مُدهشة.
على أي حال، تحاول الأم، التي فشلت في إقناع الزوج بمغادرة العراق، إقناعه بإنقاذ البنت، حتى وإن استدعى الأمر تزويجها من شخص يقيم في الولايات المتحدة، لم تره في حياتها. وهذا ما تحقق في أواخر الثمانينيات. كان الزواج تجربة كافكاوية مُروّعة.
تسأل البنت الأم بعد تعافي الأولى من تجربة الزواج الأوّل، (وزواجها، لحسن الحظ، من أكاديمي فلسطيني يقيم في الولايات المتحدة) ووقوع الثانية في قبضة مرض لا شفاء منه، وسقوط "العم" ونظامه بعد الاحتلال الأميركي: لماذا أصرت على إخراجها من العراق بمجازفة من نوع تزويجها لشخص لا تعرفه؟ تقول الأم إنها كانت تخشى على البنت من "العم". كان "يريدك". تقول.
ثمة الكثير من الظلال، هنا. ولا أريد الاستطراد في هذا الجانب رغم ما فيه من غواية. فالمهم أن كل شيء يتهاوى وينهار: زواج الأبوين، وبيت العائلة، مرض الأم، التي فقدت القدرة على النطق، وإدمان الأب على الكحول، وسقوط النظام، وانهيار العراق نفسه.
يحدث هذا كله، في كتاب زينب سلبي، بلا آثار دماء ودموع، ولا مشاهد تراجيدية، أو شواهد على بربرية النظام. فهي لا تتكلّم إلا عمّا تعرف. والواقع أن السياسة لا تمثل همّا سائداً في أوساط الطبقات الاجتماعية السائدة والمهيمنة، الأصلية والهجينة على حدا سواء، وغالباً ما تتجلى بطريقة تقنية لدى العاملين في أجهزة الدولة.
ثمة الكثير من شواهد وشهادات القمع، التي كتبها عراقيون وعراقيات، على مدار عقود أصبحت طويلة الآن، وأغلبها مسكون بالبؤس الإنساني إلى حد الفجيعة والصراخ، ولكن عروق الذهب، في كتاب زينب، تبرق من بعيد، ويبدو أنها لن تصدأ مع مرور الوقت.