كل الملفات عالقة (التهدئة، تبادل الأسرى والإعمار)
مقالات

كل الملفات عالقة (التهدئة، تبادل الأسرى والإعمار)

على الرغم من مرور خمسة أشهر على معركة سيف القدس وهبة القدس والداخل ونصرة الفلسطينيين وأنصار القضية لهم في كل مكان، لا تزال مختلف الملفات عالقة (تثبيت التهدئة، إعادة الإعمار وتبادل الأسرى)، ولم يحدث اختراق أو حتى تقدم جوهري بها، وكل ما يجري من خطوات ولقاءات ومفاوضات سقفها منخفض، وتدور حول عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل العاشر من أيار الماضي، وكأنها كانت جيدة وقابلة للاستمرار، أي عملية تقطيع للوقت وحركة بلا بركة تهدف إلى عدم حدوث فراغ ومنع انهيار الوضع الفلسطيني، ووقوع الفوضى وتداعياتها المختلفة من تعددية السلطات والفلتان الأمني، وتجدد المقاومة والمواجهة العسكرية، خصوصًا في قطاع غزة.

صفقة تبادل الأسرى مستبعدة الآن

قال لي أحد المشاركين في المفاوضات السابقة في صفقة وفاء الأحرار إن معظم ما كانت تتداوله وسائل الإعلام طوال سنوات التفاوض الخمس، وحتى إتمامها، كانت أخبارًا ملفقة أو مبالغًا فيها وغير دقيقة، وعندما نعرف عنها نبتسم ونتساءل عن مصدر هذه المعلومات والمقصود بها، وهي تلعب بأعصاب الأسرى وذويهم، خصوصًا عندما كانت تصوّر الأخبار أن الصفقة تمت، أو بانتظار اللمسات الأخيرة.

بكل صراحة، أعتقد بأن صفقة تبادل الأسرى لا تزال بعيدة لأسباب عدة، تبدأ بأن الحكومة الإسرائيلية غير مستقرة ومعرضة للسقوط إذا عقدتها، فضلًا عن أن رئيسها وأركانًا رئيسية فيها متطرفون، وعارضوا الصفقة السابقة، مستندين إلى معارضة إسرائيلية واسعة لتكرارها، خصوصًا أن عددًا ليس قليلًا من المحررين عادوا إلى ممارسة المقاومة، وتضم قيادة حركة حماس المنتخبة خلال الدورتين 2017 و2021، عددًا منهم، وعلى رأسهم يحيى السنوار، لذلك نلاحظ أن الحملة داخل الرأي العام الإسرائيلي لإتمام الصفقة صغيرة، ولا تقارن بالحملة الإسرائيلية الكبيرة والمتصاعدة التي شهدناها لإطلاق سراح جلعاد شاليط.

كما أن إصرار المفاوضين الفلسطينيين عن حق بأن تشمل الصفقة قادة المقاومة، وعلى رأسهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات، وأبطال نفق الحرية، وعدد آخر كبير من ذوي الأحكام العالية يجعل الصفقة بحاجة إلى وقت أطول حتى تتم، فضلًا عن ربطهم للصفقة بما يجري في القدس والأسرى وبقية الضفة الغربية المحتلة.

وهناك سبب آخر مهم، وهو أن حكومة الاحتلال لا تريد إتمام الصفقة سريعًا، وستحاول أن تربطها بشروط تسيء إلى المقاومة، لأن إتمامها بسرعة ووفق الشروط الفلسطينية سيعطي انتصارًا كبيرًا للمقاومة، ويُضعِف بشدة السلطة التي تعاني من تراجع كبير في شعبيتها، لدرجة أن واشنطن وتل أبيب حسمتا قرار دعم السلطة وبقائها مقابل التعاون والتنسيق الأمني.

ويضاف إلى ذلك أن الصفقة السابقة تمت في ذروة ثورة 25 كانون الثاني و”الربيع العربي”، وبعد عزل حسني مبارك، وصعود جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي كان على إسرائيل أن تبدي مرونة لإتمام الصفقة، بحكم أن الأوضاع المصرية كانت غير مستقرة وتدفع بقوة لإتمام الصفقة.

صحيح أن حراكًا حدث من خلال تراجع المفاوض الإسرائيلي عن ربط الصفقة بعملية إعادة الإعمار، ورفع أو الأصح تخفيف الحصار، وأن التفاوض تطرق إلى تقسيم الصفقة إلى مرحلتين، يتم في الأولى إطلاق سراح الأسرى من كبار السن والأطفال والنساء والمعتقلين من الذين أفرج عنهم في صفقة شاليط، مقابل تقديم معلومات عن الأسرى، إلا أن الاتفاق لم يتم على ذلك، وإن تم وحده لا يكفي، ولا يبشر بإتمامها.

ما سبق لا يعني أن إتمام الصفقة مستحيل، أو سيبقى مستبعدًا، وإنما يمكن أن يتغير الموقف إذا حصل اتفاق على الملفات المطروحة، خصوصًا إذا اجتازت حكومة بينت اختبار إقرار موازنتها الذي ستواجهه الشهر القادم، أو إذا استطاعت ضم أحزاب جديدة لها من الأحزاب المتدينة أو أعضاء كنيست من أعضاء الليكود، أو إذا قدّمت المقاومة معلومات تشير إلى أن الجنديين الأسيرين أو أحدهما على الأقل على قيد الحياة. ولكن ليس من السهولة أن توافق هذه الحكومة بسرعة بوضعها الحالي، ورئيسها تحديدًا، على إطلاق عدد كبير من ذوي الأحكام العالية.

هدنة مؤقتة جديدة أم طويلة الأمد

كما هو واضح تعمل حكومة بينيت لابيد على هدى الخطة التي أعلنها الأخير “اقتصاد مقابل أمن”، وهي خطة على مرحلتين، الأولى تكون بروفة ونجاحها يقود إلى المرحلة الثانية، أي أنها بحاجة إلى وقت.

هناك عقبات كبرى تواجه هذه الخطة، وهي أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ومن سبقتها ومن ستلحقها مهتمة جدًا بتثبيت التهدئة، لتجعل المقاومة محصورة بمطالب اقتصادية وحياتية، والتوصل إلى تهدئة طويلة الأمد، على حساب بقية الملفات، وهذا صعب جدًا حصوله، ولكنها ليست بوارد أن يساهم ذلك في تجسيد دولة فلسطينية، لا في الضفة الغربية وغزة، ولا في غزة وحدها، بل حتى فكرة إقامة كيان مستقر في غزة مرفوضة، لأن هذا الكيان سيكون معاديًا ومسلحًا ومؤمنًا بالمقاومة وتحرير فلسطين، وهذا سيجعله خطرًا كبيرًا، ما اقتضى إبقاء الحصار وشن عدوان كل سنوات عدة “لجز العشب “ومنع تجاوز المقاومة للخط الأحمر، واحتواء المقاومة وترويضها، وإذا لم تنجح الخطة كما هو واضح حتى الآن فستتزايد الأصوات السياسية والعسكرية والأمنية في إسرائيل التي تدعو إلى الاستعداد لعدوان عسكري حاسم ضد القطاع قادر على إحداث تغيير جوهري هناك.

وما يحول دون ذلك أن أي حرب حاسمة لا بد أن تكون برية، وهي لن تكون نزهة سهلة، وأن الاحتلال حريص على بقاء الانقسام الفلسطيني كونه الدجاجة التي تبيض ذهبًا لإسرائيل، وهذا يتطلب الحفاظ على سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، خصوصًا أنّ البديل عنها مجهول، ولكن شرط أن تبقى سلطة محاصرة ومهددة بالعدوان، وعندما يجري الحديث عن عودة السلطة إلى القطاع، أو تشكيل حكومة وفاق فلسطيني، وتغض الحكومة الإسرائيلية النظر عن ذلك، فهو يستهدف أو يصب في سياسة إدارة الانقسام، ومرهون باستمرار التزام الحكومة الوفاقية مهما كان شكلها بالتزامات أوسلو. فالانقسام أخطر مما يتصوّر البعض وهو يجعل أطرافه بقصد أو من دون قصد مهتمة بإفشال كل طرف للآخر، وهذا يضاعف أضراره.

ومن العقبات التي تواجه إنجاز هدنة طويلة الأمد أن فصائل المقاومة لا تستطيع أن توافق عليها مقابل مجرد تخفيف الحصار، لا سيما في ظل استمرار تهويد القدس، وتكثيف الاستعمار الاستيطاني، وتشديد الإجراءات القمعية ضد الأسرى، وعمليات الطرد وهدم المنازل، والقتل بدم بارد، والاعتقالات المستمرة والاعتداءات على الأقصى والمقدسات، بل تناولت وسائل إعلام إسرائيلية وغيرها أن أي اتفاق بحاجة أيضا إلى وقف المقاومة في الضفة، فلن يكون هناك وفق زعمهم هدوء في غزة وعمليات مقاومة مسلحة وتصعيد في الضفة، وذكّروا بأن العدوان الذي شنته قوات الاحتلال على قطاع غزة في العام 2014 كان بذريعة عملية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة.

لعل ما سبق يفسر المطالب المتواضعة المطروحة الآن على طاولة المفاوضات غير المباشرة، فلم نعد نسمع كثيرًا عن إعادة بناء المطار والميناء، وإنما عن عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل المعركة الأخيرة.

وأخيرًا، لا يجب القفز عن الموقف المصري الذي تحكمه محددات أساسية، وهي إبقاء الباب مفتوحًا لاستئناف العملية السياسية، ولإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وبالتالي وضع حد لاستمرار سلطة الأمر الواقع في القطاع التي لا بديل عنها الآن، ومنع انهيار الوضع في قطاع غزة وحدوث فوضى وارتدادات ذلك على مختلف المجالات، خصوصًا الأمنية على مصر، ولا يريد رمي قطاع غزة في حضن مصر، لذا لا صحة للأخبار عن مشاريع ضخمة على الجانب المصري، وقد تكون هناك مشاريع صغيرة لا أكثر، لأن المجمعات والمشاريع الكبيرة تنقل المواطنين من غزة إلى مصر، وهذا يفتح شهية الاحتلال لحل مشكلة قطاع غزة، بل المشكلة الفلسطينية برمتها على حساب سيناء المصرية.

.الإعمار أو إعادة الإعمار مؤجل حتى إشعار آخر

في هذا السياق لا ينتظر إعمار قطاع غزة أو إعادة إعمار ما تهدم تقدمًا حاسمًا، أولًا، لعدم وجود الأموال الكافية، ولعدم الاستعداد لتوفير أموال كثيرة في وضع معرضة فيه التهدئة الهشة للانهيار في أي لحظة وإحداث دمار جديد، فلا توجد عملية سياسية على الأبواب، ولا اتفاق تهدئة طويل الأمد بالنسبة إلى القطاع، ما يعني أن ما يتم إعماره معرض للدمار مجددًا، فأميركا وإسرائيل لا توافقان على ضخ أموال واستثمارات كبيرة في القطاع من دون ضمانات بعدم تقوية المقاومة، (لاحظوا ما حصل بالنسبة إلى مرور الأموال القطرية)، لذلك يتم طرح تشكيل حكومة وفاق حتى تكون العنوان، ولكي تتجاوز عقدة عدم الاعتراف بسلطة “حماس”، وحتى تكون جسرًا وعنوانًا للإعمار وغيره، وعلى أمل أن تلعب دورها في احتواء “حماس” وفصائل المقاومة التي يراد لها أن تصل إلى وضع شبيه بما وصل إليه من ساروا على درب اتفاق أوسلو، أو القبول بعدم تطوير سلاح المقاومة، وحصر استخدامه في توفير الأمن في القطاع، وعلى حدوده مع الاحتلال.

إذا شئنا أم أبينا، وكما هو ملاحظ، الملفات مترابطة مع بعضها البعض، ولا يمكن حدوث اختراق من دون حدوث تغيّر في عامل أو عدد من العوامل الرئيسية المؤثرة على الوضع، وبالتالي فأقصى ما يمكن أن يتم على المدى المباشر تسهيلات وتخفيف للحصار مقابل التهدئة، وعدم دفع المقاومة للوصول إلى وضع لا يوجد لديها ما تخسره من تجدد المواجهة العسكرية.

هناك حل بيد الفلسطينيين إذا توفر الوعي والإرادة اللازمة، وتغليب المصلحة الوطنية لدى القيادات، أو ضغط شعبي وسياسي عليها لإجبارها لاعتماده. ويكمن هذا الحل في بلورة رؤية شاملة وإستراتيجية وطنية موحدة تحدد الأهداف وأشكال النضال، وكيف ومتى تُستخدم، وتشكيل قيادة مؤقتة وحكومة وحدة وطنية قادرة على التعامل مع المجتمع الدولي من دون قبول شروط اللجنة الرباعية المجحفة، بما يجسد الشراكة الكاملة في المنظمة والسلطة، والانتخابات، ضمن حل الرزمة الشاملة، وبما يمكن من إحياء المشروع الوطني، والاتفاق على برنامج يجسد القواسم المشتركة في هذه المرحلة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.