لماذا الهجوم على المجتمع المدني؟
جاء تصنيف حكام إسرائيل لستٍّ من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني ” منظمات إرهابية” ليكشف، مرة أخرى، عن أهم جوانب استراتيجية الحركة الصهيونية، في نزع إنسانية الفلسطينيين، وقمع حقهم في مقاومة الظلم والعدوان، ووسم نضالهم أيا كان شكله بالإرهاب. فيما الإرهاب الحقيقي هو في الواقع ما تمارسه أجهزة الأمن الإسرائيلية وجيش الإحتلال، من تخويفٍ للفلسطينيين لشل قدراتهم، ومنعهم من إسناد إحتياجات صمود مجتمعهم وبنائه في وجه نهب وطنهم، و الإستيطان الإستعماري والقمع الذي يتعرضون له، وترهيبهم حتى يصبحوا عاجزين عن كشفه، وخائفين من إظهاره.
الهجوم الإسرائيلي على مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني مثل خطوة إضافية تؤكد أن منظومة الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلية، في سعيها إلى الحفاظ على بقائها وعلى مصالحها، تتحول نحو الأنماط الفاشية، بتحريم حرية الرأي والتعبير، والاعتداء على حق الفلسطينيين في إقامة الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وعلى حقهم في تشكيل منظمات حقوقية تدافع عن حقوق الناس، وتكشف وتعري خروقات حقوق الإنسان التي يمارسها الاحتلال ومنظومته العنصرية.
وليست مصادفة أن يوجه وزير الجيش الإسرائيلي، بيني غانتس، وأجهزة القضاء ووزارة القضاء الإسرائيلية سهامهم نحو المنظمات الأهلية الفلسطينية، بما فيها منظمات حقوق إنسان مشهود لها بالمهنية، كمؤسسة الحق.
الحملة على المجتمع المدني الفلسطيني جارية على قدم وساق منذ تسعة عشر عاما عندما أسست أجهزة الأمن الإسرائيلية ما يسمى “NGO- Monitor” الذي أخذ على عاتقه مهمة تشويه صورة المنظمات الأهلية الفلسطينية وعملها، ومحاولة تجفيف مصادر تمويلها، وإلصاق صفة ” الإرهاب” بعدد منها، وتجنيد طاقات اللوبي الصهيوني في مختلف البلدان، خصوصا الأوروبية، لتخويف حكام هذه البلدان ووزاراتها ووكالات التنمية لديها، بهدف قطع علاقاتها بالمنظمات الأهلية الفلسطينية، وضرب المجتمع المدني الفلسطيني.
أسهمت المنظمات الأهلية الفلسطينية، بالإضافة إلى القوى السياسية والمجتمعية، والجمعيات المحلية، في تشكيل واحد من أقوى المجتمعات المدنية في المنطقة العربية والمحيط الإقليمي بأسره. ومنذ وقع الاحتلال عام 1967 أدت هذه المنظمات دورا بارزا في إسناد صمود المجتمع الفلسطيني في وجه محاولات الاستيطان والترحيل والتهجير، ولعبت دوراً حاسما في المجالات الصحية، والزراعية، والاجتماعية، والتعليمية والتنموية، لدعم الاحتياجات الحيوية للمجتمع الفلسطيني، ومساعدة الفلسطينيين على البقاء والصمود، وقامت بدور حاسم في تقوية الوجود الديمغرافي على أرض فلسطين، الذي يشكل المعضلة الأكبر للحركة الصهيونية التي فشلت في ترحيل جميع الفلسطينيين، كما خططت بعدما احتلت أرضهم، على الرغم مما حدث من تطهير عرقي و تهجير جماعي أثناء النكبة عام 1948.
وعلى سبيل المثال، فإن عددا مهما من الجامعات الفلسطينية الكبرى في الأراضي المحتلة مسجَلة كمنظمات أهلية، وتقدم المنظمات الأهلية 50% من خدمات الصحة الأولية، و34% من خدمات المستشفيات، وتتولى 100% من خدمات تأهيل ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى القسم الأهم من خدمات رعاية الطفولة، والروضات والحضانات، والتنمية الزراعية.
وتقوم المنظمات الأهلية بالعبء الأكبر من إسناد المجتمع الفلسطيني في القدس وقطاع غزة وفي ما تسمى مناطق”ج” التي تشكل 63% من أراضي الضفة الغربية، ولذلك كله يوجه الإحتلال هجماته ضدها بغرض إضعاف المجتمع الفلسطيني وضرب قدرته على الصمود. ومنذ نهاية السبعينات، قامت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية بدور بارز في كشف ممارسات الإحتلال وخروقاته للقانون الدولي وتعريتها، بل إن دورها كان حاسما في تقديم الأدلة القاطعة على ما ارتكبه جيش الإحتلال وحكوماته من جرائم حرب لمحكمة الجنايات الدولية.
ويمثل المجتمع المدني، العمود الفقري للنضال الفلسطيني من أجل الديمقراطية والعدالة الإجتماعية، والحكم الرشيد، والمطالبة بإجراء انتخابات ديمقراطية فلسطينية دورية. ويقوم ممثلوه بإستمرار بدور بارز في الجهود الموجهة إلى إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية.
لا يقتصر الهجوم الإسرائيلي المخطط على المنظمات الستّ التي أعلنها، بل يمتد هذا الهجوم لضرب كل نشاطات المجتمع المدني، في القرى، والمخيمات، والمدن الفلسطينية.
والاعتداء عليها مثل في الواقع تعديا إضافيا على السلطة الفلسطينية نفسها، وما بقي لها من صلاحيات، وهي الجهة التي سُجّلت المنظمات الأهلية لديها، ووصل الأمر إلى ذروة الوقاحة، عندما إقتحمت قوات الإحتلال مرات عديدة منذ عام 2002 مقارّ منظمات أهلية كثيرة، وأغلقت أخيرا بعضها، على الرغم من وقوع هذه المقار في مدن ضمن ما تسمى مناطق”أ” التي يفترض أنها تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.
تحاول حكومات إسرائيل بإستمرار ادّعاء أنها كيان ديمقراطي، بل تدعي أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، لكنّها بممارستها القمعية من الاعتداء على حرية الرأي والتعبير، وتحريم عمل الجمعيات و هجماتها على منظمات حقوق الإنسان، وممارستها الاعتقالات التعسفية، وتلفيق التهم الكاذبة، وإستخدام أجهزتها الأمنية البشع لمنظومة القوانين الجائرة والقضاء المأجور لها، واختلافها عن كّل الدول بممارسة الاعتقال الإداري، الذي يتيح لها حبس الفلسطينيين لسنوات من دون توجيه أي إتهام لهم، وتصعيدها الإرهاب الفكري والجسدي والنفسي ضد المواطنين الفلسطينيين، بهذا كله إنما تثبت أن سماتها الفاشية هي الأقرب إلى الحقيقة.
لم تنجح إسرائيل في الماضي، ولن تنجح في المستقبل، في كسر إرادة المجتمع المدني الفلسطيني وصموده ومثابرته ، ولكن كّل الدول والمؤسسات العالمية التي تدعي الحرص على حقوق الإنسان، والديمقراطية، والمجتمع المدني، مطالبة اليوم بأن تقف بالأفعال قبل الأقوال، في وجه الانحدار الإسرائيلي نحو الممارسات الفاشية ضد الشعب الفلسطيني، خصوصا بعد إعلان حكومة إسرائيل عن آلاف الوحدات الاستيطانية الاستعمارية الجديدة، دون أدنى اكتراث بمعارضة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وباستخفاف تام بالمجتمع الدولي العاجز، حتى الآن، عن فرض العقوبات والمقاطعة على إسرائيل، وهو يشاهد تبخر “حل الدولتين” ودقّ المسامير الأخيرة في نعش إتفاق أوسلو، وتعمّق نظام الأبرتهايد والتمييز العنصري، الأسوأ في تاريخ البشرية الحديث.