دائما هناك رائحة امرأة
خلال قراءاتي لأدب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي بمختلف اجناسه واشكاله الأدبية، وجدت ان هذه الغزارة المدرارة من الفكر والوعي والثقافة الوطنية والانسانية والسياسية، الفنية والجمالية والابداعية، تفوح هناك دائما رائحة امرأة.
من هذه المرأة التي استطاعت ان تزود الأسير الفلسطيني بكل ذخيرة المقاومة والتحدي والمعرفة والشجاعة؟ بالحبر والقلم والاحساس ليكتب النص ويحفر الجدار وينقش الاغنية، يطل على الحياة من تحت الاسمنت او من نطفة مهربة، من رسالة او ذاكرة.
السجن يحتجز الجسد، لكنه لم يحتجز موعد اللقاء مع الحبيبة، وكما قال محمود درويش: ثلثي قابع في السجن، والثلثان في عش الحديقة، فالكتابة في السجن ملتهبة، هناك حافز يحرك البركان الخامد في نفس السجين، قلوبهم تخفق مع أبعد نجم في السماء، انهم مع احبائهم واصدقائهم واحلامهم ومشاعرهم، رفضوا ان يحملوا السجن في داخلهم، تحرروا ووصلوا المدينة، يكتب الاسير محمد عبد السلام:
تذكرت اني لأجلك أنتِ
عشقت حياتي وقاومت موتي
فإذ بي
الوب حنيناً لأمجاد أمسي التليدة
واكتب من أجل عينيكِ احلى قصيدة.
دائما هناك رائحة امرأة، أنثى تسكن النص، أنثى تتجاوز المكان المغلق، تتعرى، تتزين، ترقص، تغني، تمارس طقوس الحياة الطبيعية، أنثى يراسلها الأسير عزات الغزاوي ليقول لها من داخل سجنه لا شيء يكسر الشوق الا المزيد، يكتب الاسير حسام شاهين رسائله الحميمة الى قمر، يعتق نفسه من حرارة السجن ومن غموض الاسئلة، يرسم دنياه ذات النبت السماوية ويستعيد عمره الضائع، فلا اكتمال للوعي والذات الانسانية إلا بتلك المرأة التي تشبه القمر كما يقول.
من هذه المرأة التي صارت رواية وهوية وقصيدة وخاطرة ولوحة فنية، رصاصة وخلية فدائية، صارت جامعة في ثكنة عسكرية، وصارت مدرسة في معسكر، نصا للمقاومة والغزل في آنٍ معا، شاهدا على الجريمة، أراها في الشارع، على شباك البيت، في السوق، في الحقل، في الخيال وفي المظاهرة، كل اسير تسكن فيه حبيبة، وكل اسير له ما بعد الجدار علاقة وثيقة، كل اسير له في البعيد قريبا في القلب وروحا ثائرة.
يقول الشاعر المتوكل طه في فضاء الاغنيات:
واقول يا امرأتي التي أهوى
احبكِ كالخرافة والعذاب
ومناي أن امشي الى كسل المفاصل
بالزوابع والرعود.
فوجيء السجانون في معتقل المسكوبية بما كتبه ذلك الاسير على جدران زنزانته وهو في اجواء الرعب والتحقيق والتعذيب، عندما حلق خارج الألم والشبح والتدمير النفسي واستدعى حبيبته ليقول لها:
ولكنني يا حبيبة عمري البعيدة
على الرغم من انني مثخم بالجراح
واسمع حز القيود برجلي حتى العظام
تيقنت اني احبك أنتِ
دائما هناك رائحة امرأة في النتاج الفكري والأدبي للأسرى الفلسطينيين، امرأة تجري في طيات النص إما الى عملية فدائية او الى رقصة سماوية، تلك المرأة تعيد ترتيب الدقائق في السجن، تملأ خواء المؤبد والفراغ، رحلة فكر عميق، التحرر من الجمود والانتظار، الخروج من التبلد وجفاف المشاعر التي ارادها السجان، أيقاظ النبضات والكلمات والمواجهات، كسر نظام السيطرة وسياسة تحويل الانسان الى مجرد شيء بلا قيمة وبلا معنى، الى حطام، الحب في السجن يهزم الموت وتنتصر الحياة، يقول الشاعر الأسير سلمان دغش:
القيدُ في يدي والسلاسل
ولم أزل يا حبيبتي أقاتل.
كتب المفكر الأممي الاسير غرامشي في رسائله من السجن الى أمه: لن أترك حياتي كلها تتعفن في السجن، لن اسمح لهم ان يحولوني الى انسان كئيب ويائس كغراب يحط على شجرة سروٍ في مقبرة، ربما فقدت ما تبقى لدي من عاطفة الزمن الماضي، ولكي تنبثق الشرارات من اعماقي كما حجر الصوان، لا بد من ضربة حديدية، لا بد منكِ، انت قوة الحديد.
من هذه المرأة التي تنهض بكل هذه التجليات الفكرية القادمة من وراء القضبان، تخط رسائلها على ورق السجائر بوجع الرجل وقلق الهواء واختناق المكان والزمان ولكنها تجمع الرسائل والوثائق، تجمع الانفاس، تتشابك الاصابع، تجمع الارواح وترسلها الى اعين البنادق؟
يقول الاسير فايز ابو شمالة:
لانك احلى النساء وافق القبائل
لأنك في الليل نجم مسافر وعطر الجدائل
فسوف اظل كما الغيم ماطر
واني لأجلكِ روحا تقاتل.
من هذه المرأة التي قالت لحبيبها: اخاف عليك السجن، فرد عليها: من أجل شعبي ظلام السجن يلتحفُ، لو يقصرون الذي في السجن من غرفُ على السجون لهدت نفسها الغرفُ، لكن لها أمل ان يستضاف بها حرٌ فيزهر في انحائها الشرف.
دائما هناك رائحة امرأة، رائحة وطن وفكرة وقضية، امرأة هي المرجعية الروحية النفسية الصلبة والعنيدة في نصوص الاسرى وكتاباتهم، امرأة هي الكيان الذي يجعل للاسير وجودا ممتلئا، امرأة في اعماق الاسير تقاوم سياسة نزع انسانية الانسان وتجريده من طاقته ووعيه وادراكه وثقافته وهويته الوطنية، امرأة تتحرك في هذا النص او ذاك تتصدى لسياسة التصفيات واراقة الدم وسحب القيمة الانسانية للاسير والتنكر لها ولمكانتها، امرأة تشبه القنبلة واكثر، تشبه حق تقرير المصير والمواطنة والارداة الحرة.
يقول الشاعر عبد اللطيف عقل:
انا اعرف الآن كيف تصير السيول
من القطرات الصغيرة
كيف يطل من القمقمم الهش مارد.
دائما هناك رائحة امرأة، تعبيرات عن الارادة والامل، عن الصبر والصمود، ادب الاسرى هو المساحة التي انطلقت منها حريتهم الداخلية الروحية، الروح الطليقة، تلك المرأة، الرمز، الايقاع، الاشارة والنبوءة والعافية، تصنع زمنا آخر موازيا كما يقول الاسير وليد دقة، تستقبل النطفة المنوية المهربة، تستقبل القافية والحرارة المتوقدة، تنجب طفلا، تبني عائلة، تزرع وردا، تحضر لزفاف على طريق المستقبل.
يقول الاسير محمود الغرباوي:
تشبثت بالجمر والجمر انتِ
تعلمت كيف احبكِ
فأحببت كل السجينات
في أي أرض وفي أي قفر.
دائما هناك رائحة امرأة، رائحة الحب تنتشر، النتاج الفكري والثقافي للأسرى، الحب القوة الانسانية العظمى، الحب هو الخاتم الذي يبصم نفسه على القلب، الحب الذي لا يستطيع القيد احتجازه او هدره، الحب الذي يخلق ذات جديدة تتخذ شكل الرفض والكبرياء، وكما قال الشاعر الاممي ناظم حكمت:
تستطيع ان تقضي في السجن عشرين سنة أو أكثر، شريطة ان لا تسوّد منك الجوهرة النائمة تحت ثديك الأيسر.
دائما هناك رائحة امرأة، امرأة في اللغة والنص والحبر وكثافة الحضور وتقريب المسافات، امرأة حاضرة في السجن لا يراها السجان، قوة اخرى تقاوم سياسة الفقر الروحي والعجز والاستسلام والاكتئاب، لتصبح الكتابة في السجن هي محاولة الافلات من حدود ذلك الافق القسري، والخروج من ثنايا تلك اللحظة الخانقة، فلم يعد السجن مجرد جدران او صفوف من الاسلاك الشائكة ووسائل الانذار المتطورة، بل غدى تجربة حب وجودية، ينهض انسان آخر في داخل الاسير، يصرخ في سماء الحرية الزرقاء:
زنزانتي حقل من الجدل المكثف
بين روحي والظلام
سيظل عظمي في حلوق السالخين
هو الذخيرة.
دائما هناك رائحة امرأة، الاسرى يمارسون حياتهم الطبيعية في السجن وتحت وابل الاجراءات الصارمة والمذلة، يعشقون ويحلمون ويتزوجون وينجبون، فهم يتمردون على الحرب والعدوان وينتصرون للحياة ضد العدم، بينما السجانون يمارسون ادوارهم كوحوش وجلادين، سجانون اصبحوا سجناء تربيتهم وثقافتهم المتطرفة، ثقافة العنصرية والكراهية، يرى الاسرى البساتين والاشجار ويركبون الغيوم، يسمعون اصوات الطيور، بينما السجانون لا يرون سوى العتمة الداكنة، ولا يسمعون سوى صوت الابواب والاغلال والتعليمات الآمرة.
يقول الاسير ناصر ابو سرور في روايته حكاية جدار:
رأيت في السجن ارواحا قضت عقدين واكثر دون ان تلتصق بجدارها ولو لساعة، عميت عنه وابصرت كل حياة خلفه، لم يترك الجدار على اجسادهم علامات تذكر، دائما هناك رائحة امرأة هي الوطن، الحب، الحرية، الكرامة، الحياة.