السودان... لا سبيل إلا بطريق العودة للجماهير
وكأن السودان وأهله تعايشوا مع أجواء الانقلابات العسكرية وعلى هدير دباباتها. وكأن التغيير في النظام لا يتحقق مهما كان مدى حدوده إلا عن طريق الانقلاب العسكري.
لا يحتاج الأمر إلى العودة أبعد من الخمسين سنة الأخيرة للتأكد من هذه الحقيقة بمنتهى الجلاء.
ولا تغيب عن الذاكرة أسماء القادة الذين تسمت الانقلابات بأسمائهم: من النميري إلى سوار الذهب إلى البشير إلى .. إلى.. وصولا إلى البرهان.
وظل الطابع الجوهري والمركزي لكل الانقلابات هو العسكري، حتى ولو تم إخفاء الرتب العسكرية عن أسماء قادة تلك الانقلابات ومساعديهم الرئيسيين. وظل الدور المدني في الانقلابات وتنفيذها دائما تاليا، وظل دائما ثانويا وربما تابعا.
وكذلك ظلت مشاركته في الحكم بهيئاته ومؤسساته بعد استقرار حكم الانقلاب. الاستثناء الوحيد النسبي عن هذه القاعدة هو اتفاق العسكر ممثلين بالبشير مع الإخوان المسلمين ممثلين برمزهم الأول حسن الترابي على الانقلاب الذي قاما به.
وهو ما أعطى لحركة الإخوان دورا أكبر ووازنا من الدور الثانوي التقليدي المعتاد للمدنيين في الحكم الذي أعقب نجاح الانقلاب. ولكن هذا الاستثناء لم يستمر على طول بل حصل الخلاف بين المكونين وحسمه العسكر لصالح سيطرتهم الكاملة على الحكم ومؤسساته وعلى قرار الدولة ومواقفها. وغاب الإخوان ودورهم وغاب الترابي بكل خصوصيته ورمزيته.
ولا بد من الاعتراف انه رغم كل الحديث عن الانقلابات العسكرية التي حصلت والمظهر الرئيسي العسكري للحكم، فقد ظل الطابع العام والجو العام والعلاقات السائدة في البلاد يغلب عليها طابع التعايش السلمي. وقليلة او نادرة وقصيرة الزمن هي الحالات التي طغى فيها الطابع العسكري وطغى معه فيها العنف في البلاد.
وأما العنف الذي يتواجد وبعضه لازمان طويلة فهو ذلك القادم من المكونات المجتمعية في الولايات والمناطق ومعظمها يمتلك سلاحه، وله مطالب معظمها خاص بالمنطقة نفسها.
ولا بد ان يقترن هذا الاعتراف مع اعتراف مواز له ان البلاد، لم تشهد حالة نهوض ولا تطور ولا تقدم ملحوظة في أوضاعها العامة لا في الأمور والعلاقات الوطنية الداخلية، ولا في الأوضاع الاقتصادية. ولا شك ان عدم استقرار الحكم وطابعه العسكري كان سببا أساسيا بذلك.
الانقلاب الأخير لا يختلف ولا يخرج عن السياق العام لمعظم من سبقه من الانقلابات.
العسكر، ومن مواقع قيادية أولى في القوات المسلحة هم من بادر الى القيام بالانقلاب وأسقطوا حكم البشير وسيطروا على البلاد وامسكوا بزمام الأمور وعلى كل المستويات.
أما الجديد فهو انهم (العسكر) بادروا سريعا الى دعوة التنظيمات والقوى السياسية والحزبية المدنية الى المشاركة في الحكم ووضعوا لهيئات الحكم المشترك الجديد وثيقة اتفاق بين ما أصبح يعرف بمكوني الحكم (العسكر والمدنيين).
والوثيقة تنظم العلاقة بينهما كما تنظم الرؤية المشتركة للحكم وأدواته.
التجربة لم تستمر طويلا وعاد العسكر ومن موقعهم المقرر في السلطة بانقلاب جديد اخرجوا فيه القوى والتنظيمات المدنية الشريكة لهم من السلطة وعادوا واقعيا للانفراد بالحكم.
في مسار التفاسير والتبريرات والاتهامات تبرز ثلاثة عناصر تقترب من الحقائق:
الأولى، ان ما حصل هو انقلاب عسكري، كالذي سبقته من الانقلابات، على قيادة البلاد التي يفترض انها كانت شراكة بين العسكر وبعض المدنيين والتنظيمات السياسية المدنية.
لا يغير من هذه الحقيقة ان من قاموا به هم العسكر ومن موقع الشريك المقرر في قيادة البلاد.
وحجتهم الى ذلك عدم إمكانية الاستمرار مع الشركاء المدنيين وعلى أساس وثيقة الاتفاق معهم. لأن تجربة الشراكة كانت في محصلتها فاشلة بما ألحق الضرر بالبلاد وبإمكانية تطورها.
الحقيقة الثانية، ان التنظيمات والأحزاب المدنية التي كانت تشارك العسكر في حكم البلاد، لم تقدم الأداء الصحيح الذي يغني تجربة التشارك من جهة ويقدم نموذجا مبشرا للتعامل مع قضايا البلد واحتياجاته الكثيرة والمتنوعة من جهة أخرى.
ولا هي قدمت نموذجا للتعامل الصحيح مع الناس أهل البلد ومع تنظيماتهم المجتمعية ولم تمكنهم وتدفعهم للمساهمة الفاعلة، أو من أداء دورهم الرئيسي والمطلوب بالشكل الصحيح.
وسيقت الكثير من الاتهامات ان تلك القوى المشاركة في حكم البلاد انشغلت تماما وكليا في تحقيق أكثر وأكبر مكاسب لصالح تنظيماتها، وأعطت لذلك الاهتمام الأول في عملها ومشاركتها. ولم تلتفت بأي قدر الى التعاون وإعطاء الدور الطبيعي المطلوب للتنظيمات السياسية الوطنية الأخرى غير المشاركة في قيادة البلاد. ولا هي فعلت ذلك مع الحركة الجماهيرية المستقلة وتشكيلاتها المجتمعية الكثيرة واسعة التمثيل وقوية الحضور والتأثير في الشارع الوطني وجماهيره.
للمفارقة الإيجابية، فإن حركة الجماهير وتنظيماتها المجتمعية الشعبية والمهنية والنقابية هي من تفرض وجودها، الآن، وضد الانقلاب بزخم كبير وبفعل نضالي سلمي متواصل على امتداد أحياء وساحات وشوارع كل مدن وقرى الوطن.
وهي تقوم بنضالات سلمية متواصلة لتجليس الأمور في البلاد ودفعها باتجاه الحكم المدني والديمقراطي المستوعب لكل قوى ومكونات الوطن الشعبية والديمقراطية.
وإذا كان من تغيير او تصحيح سيحصل فلن يكون - أولا وأساسا - إلا بفعل حركة الجماهير وقواها وتنظيماتها المتمسكة بإصرار على هدف إنهاء حكم العسكر تماما، او على الأقل إنهاء انفراده، به كمقدمة للعودة الى حكم الشعب بالطرق والوسائل والقواعد الديمقراطية.