نحو ملامح استراتيجية عربية جديدة للتعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي‎‎
مقالات

نحو ملامح استراتيجية عربية جديدة للتعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي‎‎

حضرت، على مدى يومين، الندوة السنوية التي نظمها مركز دراسات الشرق الأوسط – الأردن، تحت عنوان “الإستراتيجيات العربية في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط وتحولاته”، وكانت الأوراق المقدمة والحوارات التي دارت والنتائج غنية ومفيدة ومهمة، ومن شأنها أن تساعد أصحاب القرار – إن أرادوا – على وضع إستراتيجيات أو إستراتيجية عربية قادرة على الانتصار، مع أن ما تقوم به مراكز الأبحاث والجامعات والنخب بشكل عام في واد وصناع القرار في واد آخر.

قدمت خلال الندوة ورقة بعنوان “الفكر الوطني الفلسطيني الجامع في إدارة الصراع (2021-2030)”، وتناولت فيها تشخيص الواقع الفلسطيني، مركزًا على أن القضية في مأزق عميق يهددها بالتصفية إذا لم تتوفر الرؤية والإستراتيجيات والإرادة والقيادة المناسبة، مع الإشارة إلى وجود عناصر ومؤشرات وعوامل ومتغيرات فلسطينية وإسرائيلية وإقليمية ودولية تبشر بالخير إذا أُحسِن توظيفها والبناء عليها.

وتناولت الورقة سؤالًا حول إلى أين يمكن ويجب أن تصل القضية في المستقبل، وما الأهداف التي يجب العمل على تحقيقها، وكيف يمكن ذلك؟

وتطرقت الورقة إلى أبرز الدروس المستفادة من الصراع التاريخي الطويل التي تساعد على وضع الإستراتيجيات المناسبة، وعَرَضَتْ الخيارات المطروحة، وهي:

الخيار الأول: العودة إلى ما قبل أوسلو، وما يتطلبه ذلك من إلغاء الالتزامات المترتبة عليه، بما فيها سحب الاعتراف بإسرائيل، وحل السلطة، واعتماد مقاومة مفتوحة حتى النصر.

الخيار الثاني: يعتمد على إعادة بناء القدرات، وتراكم القوة والإنجازات، وفرض الاستقلال الوطني والسيادة بفرض حقائق على الأرض، ووضع خطة للتخلص من أوسلو والتزاماته بالتدريج، وتغيير السلطة، وإعادة بناء المؤسسات والنظام السياسي، خصوصًا منظمة التحرير، على أسس وطنية ومشاركة حقيقية وديمقراطية توافقية.

الخيار الثالث: الدولة الواحدة، سواء الديمقراطية أو بأي صيغة، ولكن التي تهدف إلى هزيمة المشروع الاستعماري وتفكيك نظام الفصل العنصري.

الخيار الرابع: وهو يجمع بين الخيارين الثاني والثالث، خيار الاستقلال الوطني وخيار إقامة الدولة الواحدة، وهو المفضل كونه يسعى لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، من دون فقدان الأفق والهدف النهائي المستند إلى الحقوق الطبيعية والتاريخية والقانونية.

وأخيرًا، تطرقت الورقة إلى السيناريوهات المحتملة، وهي: سيناريو بقاء الوضع الراهن، أقل أو أكثر قليلًا، وهو الأكثر احتمالًا؛ سيناريو تحسن إيجابي ملموس؛ سيناريو تدهور سلبي ملموس؛ سيناريو تدهور شامل؛ سيناريو المعجزة وحدوث تقدم نوعي إيجابي من خلال اندلاع انتفاضة شاملة أو تغير كبير إيجابي في المنطقة العربية أو في الإقليم أو في العالم أو في كلها.

وأورد فيما يلي بعض الأفكار والملاحظات على هامش الندوة المهمة:

أولًا: عند وقبل التطرق إلى الإستراتيجيات، يجب تحديد الأهداف التي تسعى الإستراتيجيات لتطبيقها، كون الإستراتيجية هي الطريق، بما يشمل الإجراءات وخطط العمل والأدوات وأشكال العمل (والنضال)، الذي ينبغي السير فيه من نقطة معينة للوصول إلى نقطة أخرى، ولا يكفي أبدًا أن نقول الهدف تحرير فلسطين، لأن هذا الهدف بعيد، ويحتاج إلى تحديد أهداف واقعية يمكن تحقيقها، قريبة وبعد ذلك متوسطة وبعيدة، ووضع تصور شامل لها على طريق وضع إستراتيجيات لتحقيق كل منها.

ولا يكفي القول إن الإستراتيجية هي المقاومة، فالمقاومة ليست صنمًا نعبده ولا غاية بحد ذاتها، بل وسيلة من وسائل متعددة للوصول إلى الهدف، وهي تتسع لأشكال لا حصر لها من المقاومة، ولا تتعارض مع العمل السياسي، فالمقاومة تزرع والسياسة تحصد، ومن لا يزرع لا يحصد.

ثانيًا: الإستراتيجية المقترحة مطروحة، يجب أن تحدد لمن ومن هو حاملها الذي يسعى أو يجب أن يسعى لتحقيقها، وهل هي مطروحة لحزب أو للشعب أو للحكومات والدول. وفي العادة، الإستراتيجيات العامة والوطنية لا يمكن تطبيقها من دون تضافر كل الأطراف من ذوي العلاقة في الدولة أو الأمة مدار البحث عن وضع إستراتيجية لها، وعندما لا تقبل من المفروض وضع الخطط الكفيلة بإجراء التغيير القادر على جعلها مقبولة.

فالإستراتيجية الوطنية عندما يطرحها حزب أو يقترح ملامحها مركز أبحاث لن تكون لها أرجل إذا لم يسعَ الحزب أو مركز الأبحاث لإقناع صناع القرار بها، فلا يعقل أن يقرر حزب إستراتيجية مقاومة للبلد كله ويشرع في تطبيقها وحده، وإذا حصل هذا في بلد أو بلدان عدةـ، وهذا حصل فعلًا في منطقتنا، وله فوائد كبيرة وأضرار كبيرة أيضًا، يكون استثناء، والاستثناء يؤكد القاعدة ولا يلغيها.

ثالثًا: عند وضع الإستراتيجية لا يمكن تجاهل الأوضاع القائمة والإستراتيجيات القائمة التي تحكمها، سواء كانت متبلورة أو غير متبلورة، فمثلًا في العالم العربي كان هناك بعد النكبة هدف التحرير والعودة وإستراتيجية مناسبة له، وهو أن ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، ثم تغيرت الأهداف والإستراتيجيات بعد هزيمة حزيران 1967، لتصبح إزالة آثار العدوان من خلال حرب الاستنزاف والاستعداد للحرب واعتماد المفاوضات والتسويات عبر الأمم المتحدة، وبعد حرب تشرين 1973 تغيرت الأهداف والإستراتيجيات، إذ أصبح الهدف تحقيق السلام القائم على المفاوضات المباشرة، ومن ثم تغيّر إلى اتفاقيات ثنائية، وإلى موقف عربي جماعي طرح مبادرة السلام العربية – من دون وجود شريك إسرائيلي لها كثمن قدمه العرب مقابل أحداث 11 أيلول 2001 – التي قامت على ركيزتي الانسحاب الكامل مقابل التطبيع والسلام الكامل، وانتهت مؤخرًا إلى تطبيع بعض البلدان العربية من دون انسحاب، حين تغيّرت الأولويات والأهداف لتصبح إيران، وليست دولة الاحتلال، هي العدو الرئيسي والخطر الأكبر.

رابعًا: عند البحث في القضية الفلسطينية وبعدها العربي، لا يجب طمس الدور الفلسطيني كما حصل في حرب 1948 وبعد النكبة، ولا تضخيم الدور الفلسطيني والنفخ في استقلالية القرار الفلسطيني لدرجة عزل الفلسطينيين عن أبعادهم العربية والإسلامية والإنسانية، ومثل هذه المبالغة ساهمت في الوصول إلى عقد اتفاق أوسلو المشؤوم.

في المقابل، لا يمكن تجاهل المسؤولية العربية الرسمية عن وصول القضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه، وتحميل الفلسطينيين كل الآثام والشرور، رغم أنهم يتحملون قسطهم من المسؤولية ومطالبون بالمبادرة إلى الحل، ولكنهم فرع من أصل، أي من فروع الشجرة العربية، إذ تدهور الواقع الرسمي العربي من خلال عقد اتفاقيات منفردة مع دولة الاحتلال، إلى تفشي الاستبداد والفساد، إلى الحروب الداخلية والبينية، وتنصل العرب من مسؤولياتهم عن طريق تحميل الفلسطينيين كل المسؤولية، كما لا حظنا من خلال ترديد شعارات أهل مكة أدرى بشعابها، ونقبل بما يقبل به الفلسطينيون.

لقد حوصرت المنظمة بعد شعار بريجنسكي “باي باي منظمة التحرير”، وصولًا إلى تجفيف مواردها قبيل أوسلو، ما ساهم بشدة في دفعها إلى الكارثة، وهذا لا يبرر لقيادة المنظمة ما فعلته، فلا شيء يبرر التخلي عن الرواية التاريخية والاعتراف بإسرائيل وعن المقاومة والقبول بالتبعية الاقتصادية لاقتصاد الاحتلال، مقابل الاعتراف بإقامة سلطة حكم ذاتي وبالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني من دون اعتراف إسرائيل بأي حق من الحقوق الفلسطينية.

إن المشروع الصهيوني الاستعماري لا يستهدف فلسطين فقط كونه امتدادًا لمشروع استعماري عالمي يستهدف إبقاء السيطرة والهيمنة على المنطقة العربية برمتها من خلال إبقائها أسيرة النهب والتبعية والتجزئة والفقر والجهل والفساد والاستبداد، وإذا كانت إسرائيل لم تستطع أن تقوم من النيل إلى الفرات عبر الاحتلال فإنها لا تزال تسعى لكي تسيطر على المنطقة من المحيط إلى الخليج، ولعل اتفاقات التطبيع التي تأخذ شكل التتبيع والتحالف دليل على ذلك، وهذا ليس قدرًا بل يمكن هزيمته إذا توفرت الرؤية الشاملة والإستراتيجيات المناسبة والقيادة ذات الإرادة المطلوبة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.