تركيا: استدارة كاملة على الطريق!
السؤال الذي يشغل كل المتابعين للسياسة التركية، خصوصاً في الآونة الأخيرة، لا بد وأن يتمحور حول الأسباب التي تقف وراء الاستدارة التركية التي باتت استدارة كاملة، أو تكاد بالمقارنة مع سنة واحدة إلى الخلف، ليس أكثر!
واستطراداً في نفس سياق هذا السؤال يطرح السؤال التالي:
هل هذه الاستدارة هي نتاج "مراجعة" قامت بها، وتقوم بها، الآن، القيادة التركية، أم أنها (أي القيادة التركية) قد أصبحت مجبرة عليها قبل أن تستفحل الحالة لديها، وقبل أن يصبح التراجع أصعب فأصعب، وقبل أن يتحول الثمن الذي ستدفعه اكبر فأكبر، وبما لا يقاس.
في الواقع، الأمر سيّان من حيث الجوهر، ومن حيث النتائج المترتبة على كلا الحالتين.
فسواء كانت هذه المراجعة ناجمة عن مراجعة "ذاتية"، وعن قراءة للتطورات الدولية أو تطورات الإقليم، أو كانت بسبب حالة الانسداد السياسي والاقتصادي الذي وصل إليها حزب العدالة والتنمية في تركيا، فقد بات الأمر يحتاج إلى هذه الاستدارة، إما أملاً في استعادة ما فقدته تركيا من مساحات استراتيجية، أو تفاديا لفقد المزيد منها.
فما هي الأخطاء، وربما يصح القول أيضاً؛ الخطايا التي وقعت بها تركيا في السنوات الأخيرة تحديدا، وادت وأفضت إلى ما وصلت إليه تركيا في هذه الأيام؟
الخطأ الفكري الأكبر الذي وقع فيه حزب العدالة والتنمية فقط تولي رجب طيب أردوغان مقاليد الحكم في تركيا وإحكام قبضته على النظام السياسي فيها، بعيد ما يسمى الانقلاب، وبعد أن تم إبعاد القيادات التي تحملت قيادة البلاد في المراحل الأولى للتجربة السياسية في البلاد هو الدخول غير المحسوب على خط "المنافسة" على تمثيل "السنّة" في الإقليم.
ويمكن إيجاز هذا الخطأ ـ لأن الشرح يطول هنا ـ بأن هذه "المنافسة" لم تكن من موقع النموذج البديل، أو النموذج القدوة إلا جزئياً، وفي المراحل الأولى فقط، إذ سرعان ما تحولت هذه المنافسة إلى مجازفة كبيرة.
كان حزب العدالة والتنمية قبل "الربيع العربي" يطرح العلاقة مع الدين الإسلامي باعتبارها علاقة ثقافية وليست سياسية مباشرة، أما بعد أزمات هذا الربيع فقد تحول الأمر ليس إلى ميدان وحقل السياسة فقط، وإنما ـ وهنا كانت المسألة قد تحولت من مجازفة إلى فعل متسرع واعتباطي ـ تبنت تركيا في الواقع، وقبلت، بل وعملت على أن تكون تلك السياسة عبر البوابة الإخوانية!
لم تتمكن تركيا أن "تتخلص" سريعا من الآثار التي ترتبت على هذا "المحظور" وأخذت وقتا طويلا لتصل إلى الاستدارة الحالية.
حاولت تركيا الأردوغانية أن تلعب على خط الخلافات الخليجية، وأقدمت على تحالف "كيدي" كبير مع قطر ضد العربية السعودية أساساً، وذهبت لنصرة الإخوان في ليبيا، وحاولت بكل ما أوتيت من قوة "حصار" الدولة المصرية، وزجت بكل قوتها ضد بقاء النظام السوري ولم تكن الحصيلة كلها بمستوى المراهنة ولا الطموحات، وفي اغلب الظن أن الحصيلة الحقيقية هي صفرية أو في منتهى التواضع، وذلك على أبعد حدود التقدير.
الخطأ الاستراتيجي الكبير، وهو خطأ سياسي في القراءة والتقدير كان في الانخراط الأهوج مع الغرب في تسهيل مهمة الإرهاب الدولي للقتال ضد الدولة السورية.
دون إطالات لم يعد من طائل منها فقد تبين، الآن، بالوثائق المؤكدة أن تركيا كانت بوابة العبور لعشرات آلاف الإرهابيين إلى كل من سورية، والى العراق أيضاً، وكان من المستحيل على هؤلاء الإرهابيين أن يدمروا كل ما دمروه في البلدين العربيين دون هذا الانخراط التركي، ودون التحالف مع الغرب وبلدان الخليج.
عندما انهزم "الإرهاب" في كل من العراق وسورية نسبياً على الأقل، وحاولت تركيا أن تتدارك الأمر كان الغرب قد بدأ ينسحب من "لعبة" الاستخدام السياسي لهذا الإرهاب، وبدأ الخليج، والآن، معظم العرب يعيدون النظر في كامل نتائج هذه المرحلة كانت تركيا هنا أيضاً قد تأخرت عدة خطوات على الغرب وعن الخليج وعن العرب. وهذا ما يفسر هذه الاستدارة المباغتة، الآن، أو التي تبدو وكأنها كذلك.
الخطأ الاستراتيجي الثالث والقاتل أيضا هو أن تركيا الأردوغانية قد دخلت على خط النفط والغاز من موقع الهيمنة والاستحواذ، وليس من موقع البحث عن المصالح المتوازنة والرصينة.
تحالف تركيا مع حكومة الإخوان في ليبيا أدى إلى تحرك مصر مع كل من قبرص واليونان، وأدى تخبط سياستها مع روسيا في مراحل معينة إلى الخروج من "المولد بلا حمّص"، وكانت النتيجة أن كل دول المتوسط العربية وغير العربية قد نأت بنفسها عن هذه الأطماع التركية، وفشلت كل محاولات تركيا وقطر الاستحواذ على خطوط الإمداد، وتحولت مصر إلى اللاعب الأهم وأصبحت تركيا في الواقع لاعبا ثانويا بالمقارنة مع "الطموحات" السابقة، وعادت إلى حجمها الطبيعي، ولم تتمكن من تجاوز هذا الحجم.
وفي الحقيقة فإن سياسة (صفر مشاكل) التي دعا إليها السياسي التركي المحنّك د. أحمد داود أوغلو، والتي أدت من بين كل ما أدت إليه إلى نقل تركيا نقلة اقتصادية وسياسية كبيرة، قبل أن يتم إبعاده عن الحزب والدولة من قبل أردوغان، قد تحولت على يد هذا الأخير إلى سياسة 100% مشاكل في الداخل والخارج ومع كل المحيط العربي والدولي، ما بات يحتم وبسرعة "مدهشة" مثل هذه الاستدارة التي نشهد فصولها تباعاً.
الخطأ الرابع، وهو "داخلي" من زوايا معينة وهو "الإصرار" على "الانقلاب"، (ما غيره). لم يعد يجدي نفعا في التحشيد الداخلي، ولم تعد تبعاته اللاديمقراطية داخليا تلقى أي استجابة شعبية جدية، ناهيكم طبعا عن تبعات هذه اللاديمقراطية دوليا، وخصوصا بعد مجيء بايدن، وناهيكم طبعا عن الامتعاض الغربي الكبير من هذه التبعات.
أما المواقف المتزمتة من قضية الأكراد في سورية أولاً، وفي العراق أيضاً، وخوف النظام من انتقال عدوى الحكم الذاتي إلى أكراد تركيا ما زالت كالجمر تحت الرماد، ولم يتمكن النظام في تركيا أن يهتدي إلى حل متوازن لها بعد.
مع كل ذلك، فإن الاقتصاد التركي ما زال ينمو بمعدلات عالية نسبياً، مع أن هناك معطيات متناقضة حول طبيعة هذا النمو، وحول طرائق احتسابه الخاصة!
كما أن الهبوط المتزايد في سعر صرف الليرة التركية لا يعكس بالضرورة ترديا مباشرا، فعوامل هذا الهبوط تعود في بعض جوانبها إلى مضاربات ليست بعيدة عن "المحيط السياسي الإقليمي والدولي" للنظام. ولدى تركيا، اليوم، إمكانيات اقتصادية كبيرة، ولديها إمكانيات سياسية كبيرة لقيادة تحالف سياسي واسع مع بعض البلدان الآسيوية التي ترتبط بتركيا تاريخيا مثل أذربيجان وأوزبكستان وغيرهما وهي تستطيع أن تكون المحور الاقتصادي في هذا التحالف.
وخلاصة القول هنا، إن تركيا من خلال هذه الاستدارة، وإعادة الانفتاح على الخليج وعلى إسرائيل تحديداً ستعود إلى حيث كانت دائماً حليفا قويا للغرب، و"صديقا" خاصا لإسرائيل، وستلعب لعبة المصالح التركية الخاصة قبل أي شيء وقبل كل شيء.
الاستدارة التركية ستلقي بظلالها على الواقع الفلسطيني بصورة خاصة وحساسة، وهو أمر يحتاج إلى معالجة قادمة.