هل كان بالإمكان أفضل مما كان؟
التاسع والعشرون من تشرين الثاني كل عام ليس يوماً عادياً، أو يشبه المناسبات التي يحتفل بها الشعب الفلسطيني، ولا هي هذا العام تشبه الأعوام السابقة. الأمم المتحدة التي أقرت إحياء هذا اليوم، بعد ثلاثين عاماً على صدور قرارها رقم 181، وقرارها اللاحق 194 يعكس الأساس القانوني الصلب لما تراه الأمم المتحدة حقوقاً للشعب الفلسطيني.
حين أقرت الأمم المتحدة إحياء ذلك القرار عبر نشاطات رسمية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، لم يكن اتفاق كامب ديفيد موجوداً، ولم تكن الانتفاضة الفلسطينية الكبرى قد اندلعت، وكذلك الحال لم يكن اتفاق أوسلو، الذي انبنى على أساس قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967.
صحيح أن الفلسطينيين كانوا قد أقرّوا البرنامج المرحلي العام 1974، الذي يتحدث عن حق العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران 1967، لكنهم لم يتخلوا عن استراتيجيتهم التي تقوم على أن الحق الفلسطيني يشمل كامل ارض فلسطين التاريخية، ولم تتخل عن ذلك السياسة الرسمية الفلسطينية، بالرغم من التركيز على الهدف المرحلي.
بإحيائها لهذه الذكرى، تكون الأمم المتحدة بقوامها الجماعي قد أكدت التزامها بقراري 181 و194، اللذين كانت موافقة إسرائيل عليهما شرطاً للاعتراف بها وانضمامها إلى الأمم المتحدة.
ترفض إسرائيل على نحو قاطع وحاسم، الاعتراف بحقوق سياسية للشعب الفلسطيني، وترفض من حيث المبدأ أي مفاوضات سياسية مع منظمة التحرير الفلسطينية تقوم على أساس رؤية الدولتين ما يعني أنها ترفض كل قرارات ودور الأمم المتحدة، وأنها ملتزمة بالمخطط الصهيوني التوسعي والعنصري الأساسي.
يدرك مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد اردان الأبعاد العميقة لقرار الأمم المتحدة، بالتضامن مع الشعب الفلسطيني في ذكرى صدور قرارها رقم 181، المعروف بقرار التقسيم، ويرى بأنه يهدف إلى تعزيز حق العودة الفلسطيني، ويصف اختيار هذا اليوم على أنه "حدث مشين".
صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" تعتبر أن مطلب حق العودة يمثل محاولة فلسطينية لتدمير إسرائيل، من حيث العدد، حيث يبلغ عدد سكانها تسعة ملايين ثلاثة أرباعهم من اليهود، وبالتالي، فإن تدفق ملايين الفلسطينيين سيعني أن إسرائيل لم تعد دولة ذات أغلبية يهودية.
التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته في هذا العام اتخذ طابعا اكثر اتساعا وعمقا، سواء عبر المشاركة الواسعة من قبل لجان الأمم المتحدة، أو من قبل ممثلي الدول. بالإضافة إلى رئيسي الجمعية العامة ومجلس الأمن الدوليين. ساحات المجتمع الدولي، هي الأخرى شهدت حراكات شعبية، ومن قبل المجتمع المدني، بما في ذلك الولايات المتحدة التي تشهد لأول مرة مشاركة فيلادلفيا، ثالث المدن الأميركية، في نشاطات تضامنية مع الشعب الفلسطيني.
بالعموم، يتردد السؤال في مثل هذا اليوم، وهو هل أخطأ الفلسطينيون والعرب برفض قرار التقسيم، الذي وافق اليهود عليه، ويعطيهم الحق في إقامة دولة على 54% من الأرض الفلسطينية؟
ثمة من يتحسر على عدم استجابة السياسة الفلسطينية حينذاك على نداء المرأة (من مدينة المجدل) التي قالت: "يا ريتهم قسموا"، ولكن بعد كل ما جرى ويجري على مدار تاريخ الصراع، هل يمكن أن يكون الوضع مختلفا لو أن الفلسطينيين وافقوا على قرار التقسيم؟
الإجابة عن السؤال لا تحتمل الخطأ أو الصواب، بقدر ما أنها تستدعي مراجعة عميقة، تشمل بما في ذلك الأحداث التي جرت حتى الآن في نهر الصراع، بما في ذلك اتفاقية أوسلو، والمشهد الجاري لتفاصيل وآفاق هذا الصراع. ربما قال قائل، إن الحركة الصهيونية قبل العام 1948 وقيام دولة إسرائيل، كانت نسبيا ضعيفة، بالقياس لما تملكه، اليوم، من قوة، وبالتالي، فإن رفض قرار التقسيم من قبل الفلسطينيين لم يكن حكيماً. ولكن هل حقا كانت القوى الصهيونية ضعيفة في ذلك الوقت، بينما كانت تستند بقوة إلى الدول الاستعمارية ومنها بريطانيا وعد بلفور التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، وهي التي اخترعت المشروع الصهيوني الاستعماري، ومدته بكل أسباب القوة؟
وهل كانت الدول العربية آنذاك في وضع يسمح لها بحماية دولة فلسطينية بافتراض أنها كانت ستقوم استناداً إلى قرار 181، خصوصاً بعد أن جرى اختبارها لاحقا العام 1948، حيث تلقت هزيمة ساحقة من قبل العصابات الصهيونية المدعومة من بريطانيا وحلفائها؟
بالنظر لوقائع الصراع اللاحق لتلك الفترة، ورفض إسرائيل الاعتراف بأي حقوق سياسية للشعب الفلسطيني. حتى لو كانت بحدود دولة على الأراضي المحتلة العام 1967، وعاصمتها القدس وحتى لو دون تنفيذ حق العودة، فإن الأمر يصبح واضحاً على نحو يؤكد أن الحركة الصهيونية وحلفاءها ما كانت لتقبل قيام دولة فلسطينية على أساس قرار التقسيم.
المشروع الصهيوني الأساسي، الذي يقوم على أفكار استعمارية غربية، لا يرى وجودا لشعب على أرض فلسطين، وان من حق "الشعب اليهودي" الذي لا يملك أرضاً، أن يستعمر هذه الأرض، وان منع قيام مشروع عربي قومي نهضوي يستدعي استيلاء اليهود على كل ارض فلسطين التي تحظى بموقع استراتيجي بين جناحي الوطن العربي، وتربط بين إفريقيا وآسيا.
إذاً، فإن المشروع الصهيوني من أساسه، ينطوي على أبعاد توسعية تشمل كل ارض فلسطين على الأقل، خصوصا وفوق كل ذلك، استناداً إلى ادعاءات توراتية مزيفة ما يعني ان الصراع وجودي.
والآن، رغم كل ما تبدو عليه إسرائيل من قوة، وما يبدو عليه العرب من ضعف وشبه انهيار، هل يعني ذلك أن الفلسطينيين في موقع ضعيف ويائس؟ العالم يتغير، ولا يتغير لصالح التوسعية والقمع والعنصرية الصهيونية ونسأل: هل الفلسطيني هو من يتهم بالعنصرية، وارتكاب جرائم حرب؟ هل الفلسطيني هو من يتهم بسياسة القتل والإبادة الجماعية، وهدم البيوت وسرقة الأراضي؟ هل الفلسطيني هو من يتهم بالسيطرة على "شعب" آخر، ويمارس الإرهاب بحقه، ويرفض كل قرارات المجتمع الدولي؟ هل الفلسطيني يعاني من هاجس وجودي، أم أن هذا الهاجس يتسلل بعمق في كل مساحات التجمع اليهودي بما في ذلك طبقة السياسيين والكتّاب، والمؤرّخين والصحافيين؟
يكفي أن نلاحظ بأن كل قوة الولايات المتحدة، لم تنجح في إقناع أو إرغام الكثير من دول العالم. لنقل سفاراتها للقدس، والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. رغم كل ذلك فإن الوقت لصالح أصحاب الحق الذين عليهم ألا يستعجلوا أو ييأسوا، فالعالم يتغير في غير صالح العنصرية وإرهاب الدولة.