العجز يقود للتكيّف مع مخططات الاحتلال
بينما تواصل إسرائيل تنفيذ مخططاتها الاستراتيجية لحسم الصراع على الأرض، قبل أية مفاوضات، وبمعزل عن مثل هذه المفاوضات التي يمكن أن تجري في المستقبل، من خلال مواصلة تهويد القدس، وضمّ أكبر مساحات ممكنة من الأراضي الفلسطينية في الضفة، وتقييد واختزال دور السلطة الفلسطينية في وظيفتي الأمن وإراحة دولة الاحتلال من عبء التعامل مع السكان في شؤون حياتهم وخدماتهم المختلفة. وسط كل ذلك يواصل كثير من المسؤولين من المستوى القيادي الفلسطيني التعامل مع التطورات والأحداث بنفس الطريقة التي كانت عليها الأمور قبل ربع قرن: أي بقصف كلامي عنيف، ووابل من التصريحات وحملات التنديد والشجب، وتذكير إسرائيل بأن ممارساتها تخالف القانون الدولي، وتمثل خرقا فاضحا للاتفاقيات الموقعة، وتتناقض مع مبادئ ومتطلبات عملية السلام. ولا بد أن نضيف ما يستدعيه الموقف في العادة من بهارات ولزوم البيانات من محسّنات كدعوة المجتمع الدولي للتدخل، ومطالبة الدول الكبرى بالضغط على دولة الاحتلال لمنعها من مواصلة اعتداءاتها وانتهاكاتها، وفوق كل ذلك دعوة شعبنا وقواه الوطنية للتصدي لهذه المخططات ومواجهتها.
لو فحصنا المواقف المشار لها آنفا ودققناها، لوجدنا أنها صحيحة في الغالب من حيث المضمون والتوصيف، لكن المشكلة ليست هنا، فوظيفة القيادة ليست تشخيص ما يجري وإبداء الرأي القانوني فيه، هذه مهمة الكتاب والمحللين والمعلقين والمختصين من الأكاديميين، لكن وظيفة القيادة وواجباتها تتمثل في رسم الخطط العملية، وتعبئة الطاقات والموارد البشرية والمادية المتاحة مهما كانت بسيطة ومتواضعة، وحشدها في خدمة الأهداف التي نسعى لتحقيقها، أو إحباط المخططات المعادية التي نسعى لإحباطها.
تكرار هذه المواقف الكلامية في كل مناسبة، وردّا على أي إجراء احتلالي، يُفقد الكلام معناه وفائدته، ويخسر ثقة الشعب في مصداقيته كما في قائليه، ويُوسّع من الفجوة بين القيادة ومجمل النظام السياسي القائم ومكوناته من جهة وبين الشعب من جهة أخرى، وما يفاقم من هذه الأزمة هو معرفة الناس أنه لا تبذل جهود كافية لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة واستعادة الوحدة، أو إعادة ترتيب البيت الفلسطيني لمواجهة استحقاقات هذه المرحلة وتحدياتها.
من الشواهد الحديثة على هذه الظاهرة ما طالعناه وسمعناه من عدة مسؤولين فلسطينيين مؤخرا ردا على قرار الحكومة الإسرائيلية التسريع بنقل الوزارات والدوائر الحكومية إلى القدس، وفرض غرامات على الهيئات والوزارات المخالفة. وكذلك الموقف من المخطط الاستيطاني الأخطر منذ العام 1967 والذي شرعت دولة الاحتلال في تنفيذه على أرض مطار القدس (قلنديا) وتسريب أنباء من أحد وزراء الحكومة الإسرائيلية عن إمكانية إقامة مطار بديل في مكان بديل بين القدس ورام الله لخدمة مواطني الضفة الفلسطينيين وسكان القدس والمستوطنين الإسرائيليين.
صدرت مواقف فلسطينية عدة تندد بهذه الإجراءات، ولكنها لم تُكلِّف نفسها عناء التدقيق فيها، ما يؤكد عدة مسائل: وهي أن اصحاب تلك المواقف لا يملكون سوى إصدار تلك التصريحات، وأنهم اعتادوا على إصدار مثل هذه البيانات بشكل آلي، أو ربما يعهدون بصياغتها إلى معاونيهم من دون بذل جهود جدية في استقصاء الأمر ومعرفة تفصيلاته وذيوله، وأنهم غائبون عن حقيقة ما يجري في القدس من مخططات تهويد وهجمة شاملة على كل ما هو فلسطيني، وما تقوم إسرائيل بتنفيذه عمليا وبشكل تدريجي وتراكمي، كوجود معظم الوزارات الإسرائيلية في القدس منذ سنوات طويلة بل إن بعضها مثل وزارة القضاء ووزارة الأمن الداخلي نقلتا إلى القدس الشرقية منذ عقود، حيث أن الأولى موجودة في شارع صلاح الدين في الموقع الذي كان مقرا لمحافظة القدس قبل عام 1967، والثانية في الشيخ جراح في موقع قيادة الشرطة القطرية مقابل مدرسة عبد الله بن الحسين. اما بشأن المشروع الاستيطاني في قلنديا والمطار البديل فما على المسؤول الذي يتحدث عن ذلك سوى القيام بزيارة سريعة للمنطقة، أو يُكلِّف أحد مساعديه بهذه المهمة، ليرى أن العشوائيات الفلسطينية التي تجاور المطار والتي انتشرت خلال السنوات القليلة الماضية وشجعتها إسرائيل لإخراج المقدسيين من داخل المدينة، تقضي عمليا وفنيا على أية فرصة لاستخدام المطار، وأن أعمال الحفر والتأسيس للمستوطنة بدأت فعليات ولم تعد مجرد مخططات.
لا تقتصر مشكلة “الرد بالتصريحات” على مسؤول أو عدد قليل من المسؤولين، فهي ظاهرة عامة تكاد تشمل معظم الفصائل والمسؤولين الذين يطلقون تصريحات نمطية في المناسبات السنوية وفي الرد على ممارسات إسرائيل، وتكاد تكون هذه التصريحات اشبه بتعبئة استمارة أو “عملية قص ولصق” لا يتغير فيها سوى التاريخ والحالة الملموسة التي علينا شجبها والتنديد بها. ولا تكمن المشكلة في ضيقنا وتبرّمنا من مثل هذه التصريحات الزائدة عن الحاجة، لكن هذه الظاهرة، إذا ربطناها بطريقة إدارة الشأن الداخلي وتعطيل الانتخابات وغياب مؤسسات الرقابة الشعبية، فإنها قد تعكس ما هو أخطر ألا وهو وجود حالة من التكيُّف مع مخططات الاحتلال، ولا نقول الموافقة أو القبول لا سمح الله، هذا التكيُّف هو في الحقيقة تعبير عن العجز من جهة وعن التمسك بمواقع السلطة والمسؤولية من جهة أخرى، وربما يخفي في طياته أملا ما بحصول معجزة من السماءّ!