الاحتواء الأميركي للصين هل لا يزال ممكناً
منذ عهد باراك أوباما، قررت الولايات المتحدة، الاستدارة نحو آسيا لمواجهة التمدد والصعود الصيني، ومنذ ذلك الوقت باتت الاستراتيجية الخارجية الأميركية تركز على احتواء الصين، وأضحت سياستها الخارجية موجهة بجلاء لتحقيق تلك الاستراتيجية، خلال عهدي الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن.
وأصبح العديد من السياسات الخارجية الأميركية اليوم تفهم في إطار سياسة الاحتواء التي تتبناها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون لمواجهة الصين وتقويض مكانتها، وهي ذات السياسة التي تبنتها أميركا وحلفاؤها في الماضي، تجاه الاتحاد السوفييتي للحد من نفوذه، خلال الحرب الباردة.
تتشابه المعطيات بين اليوم والأمس، فلم يعد هناك شك في أن الولايات المتحدة لم تعد الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وأن الصين باتت المهدد الأول لمركزها القطبي المتفرد، فعالم اليوم بات أقرب إلى عالم متعدد الأقطاب، تتفوق فيه الولايات المتحدة والصين، بشكل رئيس، تماماً كما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، تقود عالماً ثنائي القطبية، خلال الحرب الباردة.
كما أن الصين هي أحد أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمين، والمتحكمين في قراراته، تماماً كما كان الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، والذي شكل ذلك في حينه قوة معطلة لعمل وقرارات المجلس، إلا أن الصين تعمل اليوم في مجلس الأمن، بتناغم وتفاهم مع روسيا، وليس كما كان الاتحاد السوفييتي يعمل وحده في الماضي.
أضف إلى ذلك أن الصين اليوم قوة نووية وعسكرية ذات وزن ثقيل، لا يمكن إغفالها، تماماً كما كان الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، حين حُكم صراع البلدين بتفاهمات ضمنية ضبطت حدود وإطار المواجهة بينهما، والتي اعتمدت على مفهوم "الردع النووي"، ومن الصعب أن تخرج حدود المواجهة بين الولايات المتحدة والصين اليوم عن نوع من شكل من التفاهمات الضمنية الشبيهة أيضاً، والتي تحكم صراع الطرفين اليوم.
لكن هناك معطيات جديدة لا يمكن إغفالها، في هذا الصراع المفتوح بين الولايات المتحدة والصين اليوم، تختلف عن تلك التي حكمت تطورات الحرب الباردة وحددت نتائجها، وقد يكون على رأسها تفوق الصين الاقتصادي، ذلك التفوق الذي يقلب معادلة الصراع الماضية ونتائجها، حيث كان الضعف الاقتصادي للاتحاد السوفييتي، السبب الرئيس في هزيمتها في الحرب الباردة.
لم تنجح الصين فقط، وخلال العقدين الماضيين، وبنهج تراكمي، في بناء قوة اقتصادية وعسكرية يحسب حسابها، بل تفوقت في مجالات التكنولوجيا المختلفة التي تحكم لغة هذا العصر، فما هي فرص الولايات المتحدة لقلب جميع معطيات التفوق الصيني التراكمية لصالحها اليوم؟
من السهل فهم حدود وأهداف المواقف والسياسيات الأميركية الحالية، والتي تتمحور جميعها لمواجهة الصين، إذ أقدمت إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن على تدشين وحدة جديدة تابعة لوكالة المخابرات الأميركية في شهر تشرين الأول الماضي، مكلفة بمتابعة قضايا الصين، بقيادة وليام بيرنز، بعد أن اعتبرت الإدارة أن الصين تشكل أهم تهديد جيوسياسي للولايات المتحدة في القرن الـ٢١.
كما بدأ الكونجرس بالعمل على تشريع قانون الابتكار والمنافسة الأميركية للعام ٢٠٢١ (USICA) على أن يتم دمجه مع مجموعة أخرى من التشريعات الموجهة ضد الصين، مثل قانون المنافسة الاستراتيجية وقانون مواجهة التحدي الصيني وغيرها، بهدف الحفاظ على التفوق التكنولوجي، بميزانية قدرت بـ٢٥٠ مليار دولار.
وكانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قد انتهجت سياسة عدائية تجاه الصين، فشنت حرباً تجارية ضدها، وحظرت وحاربت شركاتها التكنولوجية، وسمحت بوجود تبادل دبلوماسي رفيع المستوى مع تايوان، وصعدت هجومها في إطار ملف حقوق الإنسان في الصين، وفرضت بسببه عقوبات على مسؤولين وشركات صينية، كما حملت الصين مسؤولية انتشار فيروس كورونا.
وتأتي القمة من أجل الديمقراطية التي تعقدها الولايات المتحدة وحلفاؤها اليوم وغداً في واشنطن، بمشاركة أكثر من مائة دولة، منها حوالى ٣٠ دولة صغيرة في عدد سكانها، للالتفاف على الاختراق الذي نجحت الصين في تحقيقه خلال السنوات الماضية، في كسب الكثير من دول العالم الصغيرة والفقيرة لجانبها، خصوصاً في إفريقيا، ومناطق أخرى أيضاً من أنحاء العالم المختلفة، عبر المدخل الاقتصادي.
وأدركت الولايات المتحدة متأخرة أهمية مثل هذه الدول، والتي استطاعت الصين استثمار علاقتها معها على سبيل المثال سياسياً في أروقة الأمم المتحدة، ممثلة بأجهزتها كالجمعية العامة واليونسكو ومنظمة الصحة العالمية، لتعزيز المصالح الوطنية الصينية في المؤسسة الدولية.
ومؤخراً، جاء إعلان الولايات المتحدة عن مقاطعتها الدبلوماسية لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين للعام ٢٠٢١ – ٢٠٢٢، محتجة على ما تعتبره "وجود انتهاكات حقوق إنسان في الصين"، وهي ذات الحجة التي استخدمتها خلال المواجهة التي شهدتها القمة الافتراضية بين رئيسي البلدين بايدن وشي جين بينغ، الشهر الماضي، والتي لم تنجح في الخروج بأي نتائج إيجابية.
وتستخدم الولايات المتحدة قضية انتهاكات حقوق الإنسان في مواجهة الدول التي تعارضها، على أساس أنها أحد المبادئ الليبرالية التي تدافع عنها وتحميها، وفي نفس الوقت تتغاضى عن أي انتهاكات من نفس النوع تحدث في الدول الحليفة لها، وعلى رأسها إسرائيل، في سياسة الكيل بمكيالين، والتي أفقدتها الكثير من مصداقيتها. كما صعدت الولايات المتحدة من تحركاتها ونشاطها العسكري في عقر دار الصين بالتواجد في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي ومضيق تايوان، ومن خلال بناء تحالفات عسكرية مناهضة لها، لتضييق الخناق على الصين في ممراتها المائية، فأعلنت الولايات المتحدة في شهر أيلول الماضي عن إقامة تحالف عسكري مع إستراليا والمملكة المتحدة باسم تحالف "أوكوس" (AUKUS)، لتشكل تحالفاً مضاداً للتحالف الصيني الروسي في المنطقة. ومن المقرر أن يتم تسليم أستراليا الغواصات وغيرها من التقنيات الالكترونية الحساسة العام ٢٠٤٠.
وتتصدى إدارة بايدن لقضية تايوان، التي تعتبرها الصين قضية جيوستراتيجية بالغة الأهمية، على أساس أنها جزء لا يتجزأ من الوطن الصيني، في موقف يعتبره الخبراء تراجعاً عن سياسة الغموض الاستراتيجي التي انتهجتها واشنطن في السنوات التي سبقت عهد ترامب. وعلى الرغم من تأكيد بايدن في شهر تشرين الماضي أن بلاده ستحمي تايوان من أي اعتداء صيني، فإنه أكد أيضاً أن سياسة بلاده لن تشهد أي تغيير عن الماضي، في محاولة لحفظ خط الرجعة.
وتتمتع جزيرة تايوان بحكم ذاتي، ولا تعترف واشنطن بها رسمياً كدولة، كما لا تربطها معها اتفاقية دفاع مشتركة، وطالما تجنبت الإدارات الأميركية السابقة، باستثناء إدارة ترامب، استفزاز الصين لأجلها.
ومن المستبعد أن تنجح إدارة بايدن في إقناع الناخب الأميركي بخوض حرب لصالح تايوان في مواجهة الصين، في ظل تصريحات بايدن بعد الانسحاب من أفغانستان التي قال فيها: "إن الحفاظ على الديمقراطية الأفغانية لا يستحق أرواح الأميركيين".
كما تسعى الولايات المتحدة للوقوف حجر عثرة أمام مشروع الصين الاقتصادي العابر للحدود "الحزام وطريق الحرير" الذي أطلقته الصين العام ٢٠١٣، وذلك من خلال مشروعها الذي يعرف ببرنامج "إعادة بناء عالم أفضل" الذي أعلن عن إطلاقه في شهر حزيران الماضي، ويفترض إنجازه بحلول العام ٢٠٣٥.
ويستهدف البرنامج التصدي لمبادرة "الحزام والطريق الصينية" من خلال تبني مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (G7) تمويل مشاريع بنية تحتية لدول من العالم النامي، وتعتبر طرفاً في المبادرة الصينية.
وفي حين تتبنى الصين تمويل مشروعها الاقتصادي وحدها، تتقاسم تمويل المشروع الغربي واشنطن ودول (G7) عبر بنوك التنمية الدولية والمؤسسات الدولية. وفي حين تؤكد الولايات المتحدة أن مشروعها يأتي لنفي المشروع الصيني، تؤكد الصين أن المشروع الغربي لا ينفي مشروعها، لأن العالم يحتاج لمثل هذه الجهود مجتمعة.
إن مشاريع الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية في مواجهة الصين تحتاج لسنوات كي يتم إنجازها، كما أن مكانة جو بايدن السياسية في تراجع ملحوظ.
وتتصاعد مخاوف الديمقراطيين من خسارة الأغلبية في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل في الكونجرس، خصوصاً بعد خسارتهم في الانتخابات الأخيرة لحاكم ولاية فرجينيا مطلع الشهر الماضي، ونتائج استطلاعات الرأي الأخيرة التي جاءت في غير صالحهم.
في المقابل يحافظ بينغ الرئيس الصيني على استقرار سياسي داخلي، محمي بنظام الحكم في بلاده، كما أن الصين تحافظ على علاقات اقتصادية عميقة مع مختلف دول العالم، بنتها على مدار سنوات طويلة. وقد يكون من أهم هذه العلاقات، علاقتها مع الولايات المتحدة، والتي بدأت بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية العام ٢٠٠١، وانخراطها منذ ذلك الوقت ضمن منظومة الاقتصاد الليبرالي، أو النظام الرأسمالي، مع احتفاظها بنظامها الداخلي، المحكوم بالطلب والابتكار المحلي، والذي تعمل الشركات الأجنبية داخل الصين وفق معطياته.
وتعتبر الصين أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، حيث بلغ حجم السلع والخدمات المتداولة الثنائية بين البلدين خلال العام ٢٠٢٠ حوالى ٦١٥ مليار دولار، وارتفعت الاستثمارات الأميركية في الصين لتصل إلى ١٢٤,٥ مليار دولار في ذات العام.
وكانت الصين قد فتحت أسواقها المالية للشركات الأجنبية العام ٢٠٢٠، فضخت شركات "وول ستريت" وحدها في أسواق السندات الصينية ٢١٢ مليار دولار.
تمتلك الصين علاقات قوية سياسية ودبلوماسية واقتصادية مع معظم دول العالم، بما فيها الدول الغربية، فهي شريك اقتصادي قوي لإسرائيل وفي ذات الوقت شريكة لإيران وكذلك لدول الخليج، فالصين تتحدث مع الجميع بلغة الاقتصاد التي تجيدها كل دول العالم، كما أن الاقتصاد الصيني هو الأقوى عالمياً على الإطلاق، في ظل دعم المنتج المحلي عموماً. فخلال العام ٢٠٢٠ سجلت الصين ٨٠٠٠ شركة جديدة، وتستضيف مصانع عالمية، مثل شركة آبل وبوينغ، حيث يعمل في مصنع آبل وحده أكثر من ربع مليون عامل.
وتسجل الصين وحدها سنوياً أكثر من نصف مليون براءة اختراع، في مجالات عسكرية وتكنولوجية وغيرها.
وتستثمر الصين بكثافة في بناء شبكات الجيل الخامس. ووقعت الصين ١٠٧ اتفاقيات استثمار ثنائية، وتفاوضت حول ٢٤ اتفاقية تجارة حرة، منها ١٦ اتفاقية تم توقيعها والعمل بها، في المقابل تفاوضت الولايات المتحدة على ٢٠ اتفاقية تجارة حرة، تم العمل بـ١٤ اتفاقية منها فقط.
وخلال العام الحالي، وصل دين الولايات المتحدة للصين ١,١ ترليون دولار، حيث تدفع واشنطن للصين فائدة يومية تقدر بـ٧٤ مليون دولار.
وحسب استطلاع للرأي أجرته غرفة التجارة الأميركية حول إمكانية تقليص الشركات الأميركية لتواجدها في الصين، أكدت ٧١ في المائة من هذه الشركات، عدم نيتها سحب شراكتها مع الصين.
تعلم الصين أن التفوق التقني والاقتصادي هو رافعتها نحو القطبية، وأن الابتكار التكنولوجي هو ساحة المعركة الرئيسة ومفتاح اللعبة الاستراتيجية العالمية، بالتوافق مع تبنيها لقاعدة الاعتماد على الذات، ما يفسر سياساتها القائمة، كما أن الصين تعتمد منهجاً سياسياً براغماتياً، وتتبنى سياسة المواجهة الهادئة، في ظل عقيدة عسكرية استراتيجية دفاعية، لا تميل بطبيعتها للتوسع، وهو ما ينسجم بشكل كبير مع أهدافها السياسية والاقتصادية، التي تحتاج لسيادة حالة من السلام والتفاهم مع الشركاء في الإقليم ومع العالم، كما أن الصين تعمل من خلال المؤسسات الدولية والنظام التعددي التعاوني المشترك، الذي بات طريقاً للتعامل وحل كثير من القضايا الدولية، فهل يمكن أن تنجح الولايات المتحدة بعد كل هذا في تفكيك هذا الصرح العملاق، في ظل معطيات الواقع القائم؟