النهار بلا أطرافه...
تُرهبني فكرة أن أكتب بلغتي وأسلوبي عن بطل الكلمة بذاته، لكنني سأحاول الكتابة، لا أعرف إذا ما كان هذا النص سيعجبه، له الحق في نقده، تعديله، تحريره وربما رفضه بالكامل بطلبه من رئيس تحرير "الأيام" بأن "أطراف النهار" لا رثاء لها، فالكلمة لا تموت إن مات كاتبها!! إلا أنني لا أستطيع العثور على الكلمات التي يجب تدوينها من أجل رثاء النصوص المستقبلية التي لم يكتبها الفقيد بعد في ظل واقع أصبحنا نبحث به عن النهار.
الرثاء هو تعبير عاطفي عن الحزن أو الحزن الذي اختبره الكاتب في فقدان إنسان ما، في الرثاء لا نختبئ من توتر المأساة لنأتي إلى أسئلتنا الأكثر حدة وانزعاجا، ويطرح العقل تساؤلات غامضة فاترة لماذا؟ كيف؟ متى؟ في الحزن نعبر عن تضامننا مع الفقيد؛ فأسئلتنا وعاطفتنا تحترم المعاناة المشروعة التي نمر بها نحن والآخرون الأحياء الذين ما زلنا نبحث عن النصوص المفقودة التي لم تكتب بعد....
الرثاء أيضا يتطلع حتما إلى المستقبل والنهار. لأن الله يسمعنا ومن القلب، حتى قلوبنا قد تنكسر، لا تشعر دائما بالقدرة على الغناء والمديح في أوقات اليأس والتذمر، يمكن أن يساعدنا الرثاء على إعادة اكتشاف النظام في وسط الفوضى التي كان يتخطاها الراحل برشاقته المتمثلة في الانطواء واحتضان الجميع بطريقة زعيم الكهنة في المقاهي والأنشطة الثقافية المتنوعة التي كانت نقطة اللقاء الدائم لنا.
أستاذي حسن البطل أول شخصية أقابلها ضمن وظيفة جامعية يجب تنفيذها مع شخصية إعلامية أثناء دراستي الصحافة في جامعة بيرزيت العام 1997. كان الراحل خلوقاً، جمّ التواضع، حسن التعامل، عالي الاطلاع والثقافة لأنه كثير القراءة قليل الكلام، كان موسوعة تسير علي الأرض، ملما بحياة الأدباء والسياسيين، هادئ الطباع، دائم البشاشة والابتسام، كان نِعم المثقف، كان وسيزال أشهر كّتاب العمود والمقال الصحافي.
كان أول درس لقنني إياه عندما بدأت الكتابة، أنه في خضم حياتنا وعملنا وتفاصيل كل مكوناتها، نواجه حتماً التجارب بكل ما تحمله التجربة من معنى والقصص اليومية والحقائق المظلمة التي تنتج مزيجا معقدا من المشاعر بداخلنا، هنا تولد الكلمة. لكنه لم يعلمني أن هذه المكنونات العاطفية غالبا ما تؤدي إلى فقدان الكلمات أو الشعور بالشلل إذا ما أردت الكتابة عنه في هذا المقال.
استطاع البطل أن يعلمني كثير الكثير، فغير رؤيتي للحياة ليس فقط لأنني من متابعي أطراف نهاره، فعلمني أن أمضي بالسخرية والابتسامة لأن لا شيء في الحياةِ يستحق الحزن خصوصاً وقت الغضب والانفعال السياسي.. علمني أن أسمع لغة الشارع وأنقلها كما هي دون وضع البهارات.
لكنه نسيّ أن يعلمني كيف أمضي أنا القارئ حين يمضي هو الكاتب بعيدا، نسيّ أن يخبرني ماذا علي أن أفعل عندما أفتح الصحيفة ولا أجد "أطراف النهار" ... نسيّ أن يفعل ذلك.. ولأجله أكتب... وأقول له... يا بطل الكلمة...الى اللقاء... أو ربما في كل مقال لي معك لقاء ما...
رحل حسن البطل، لترحل معه أطراف النهار، وعزاؤنا انه ترك إرثا ضخما من الأعمال الكتابية الراقية ليمهد للأجيال دربا يسيرون عليه وينهجون مدرسته الكتابية المتميزة بالصدق والإبداع والموضوعية، رحمك الله يا بطل الكلمة رحمة واسِعة. رحلت يا صديقي وتركتنا وحدنا نُصارِع الواقع بمقال، مات البطل لكن أثره مقروء وسَيموتُ غَيرهُ الكثيرون دون أثر.