بلاغة الحديث بعد المصيبة
عندما تقع الكارثة تظهر البلاغة، وفي لحظات نصبح خبراء الليبرالية الجديدة ونحلل على أساس أنها سبب الويلات ونعرج على علماء الاجتماع والتربية، ومن ثم نذهب صوب خطباء المساجد وأساتذة المدارس والآباء والأمهات والأخلاء، وننتظر بالثانية محتوى خطبة الجمعة لعلها تقلب المفاهيم وتوجه القيم بهذه الدقائق العشر التي يقدمها الخطيب، وهذا التركيز قد يوقع كثيرا من الخطباء بثغرات فيذهب بعضهم لتمجيد القبائل والعشائر كبلسم للواقع الذي نحن فيه!!!!
وتغيب تلك البلاغة لفترة زمنية طويلة وتسترخي انتظارا لحدث أو كارثة جديدة بينهما يشحذون همتهم للانغماس عن غير قصد وعن قصد بالتحريض (الهمز واللمز)، ولا يقيمون وزنا لما يفعلون وهم يظنون انهم يحسنون صنعا للأسف الشديد، وهنا تكمن المأساة لأن الغالبية تستمتع ان تكون جزءا من المشكلة لا أن تكون جزءا من الحل. ويقومون بهذا الدور من منطلق لا علاقة له بحرية الرأي والتعبير ولكن يلبسونه هذا اللباس ولكنه قدح وتشهير واستعلاء ورفض للرأي الآخر على قاعدة انه بالٍ.
السؤال الذي يشغل بال الرأي العام، اليوم، (إلى أين نحن ذاهبون؟). ولا يمتلك أي كان بلاغة الإجابة عن هذا السؤال لا قولا ولا فعلا، حتى أن من تتوسم بهم الخير تراهم يحجمون على قاعدة أن الوضع صعب معقد وفي اعقد اللحظات وكأني أحدثهم من باب أنني أريد أن اسمع هذا القرص المضغوط، ان احجم هؤلاء ترى من سيتصدر الموقف والادعاء بحكمة الرأي، أولئك الذين يهمسون بأذنك على أساس انهم يمتلكون الرأي السديد وإذ به يقول لك ذات سؤالك بصيغة مختلفة تبدو كأنها تفعل فعل السحر، فإذا بها تدخلنا ذات الدوامة ونعود لنلقي باللائمة على هذا المسؤول وذاك الراغب بالمسؤولية!!!
أذكر كيف كنا نعيش ما قبل الانتفاضة الكبرى وخلالها، برز اهتمام كبير بالتربية والتعليم وكيف شحذ الخبراء أدواتهم ليطلقوا صرخات في ملف (التربية على القيم) (التربية الوطنية) (التفكير الابداعي)، ورغم إغلاق المدارس والجامعات لسنوات إلا أن الناس ظلوا يحافظون على المسيرة التعليمية ولم تكن هناك الشبكة العنكبوتية ولا مواقع التواصل الاجتماعي إلا أن ابتكارا كان عنوانه (أوراق العمل التربوية) و(التعليم الشعبي)، وبتنا نتابع مؤتمرات تربوية ولقاءات وزيارات من وفود دولية تربوية لأن الرأي العام يعتبر هذا الملف هو الأهم والأبرز وهو الذي يحافظ على منظومة القيم ويحفظ المجتمع من الانهيار.
اليوم، حالنا أكثر تقدما، وزارات وحكومة وخبراء واتفاقيات مع العالم أجمع بالشأن التربوي ولكننا مرتبكون، نتراجع طوعا الى الخلف ونعتقد أن الحل الأساسي هو حل أمني ولا يربطه حبل سحري بالتربية والقيم والتربية الوطنية، وهنا نرفع الكرت الأحمر ونقول، يجب ان نشحذ الهمم باتجاه إسعاف المجتمع من انهيار منظومة القيم واستهانة التهجم والتشهير والتحريض ونظنه حرية رأي وكأن المتهجم والمشهر له كرامة وان الآخرين لا كرامة ولا قيمة لهم!!!
يجب ان نطور أدوات الضغط والتأثير والتشبيك لحل قضايا عامة ولا يجوز أن نقلل من شأن من نضغط عليهم بصفتهم الاعتبارية (رئيس بلدية)، (رئيس جامعة)، (مدير عام شركة)، (مزود مياه وكهرباء)، بحيث ننسى القضية التي نحن بصددها، ونركز على الشخص وسلبياته وننسى سلبياتنا وضعف قدراتنا في بعض القضايا لو تابعناها، وتلك مهارات يجب ان نعززها ونطورها ولا نستخف بها بالمطلق.
شخصيا، أعجبت بقرارات رؤساء الجامعات مع أنها ليست بالضرورة الأفضل بل بالإمكان أفضل مما كان، ولكن الحديث عن التركيز على المهارات الحياتية أمر مهم وضروري، ومهم تماما اتخاذ المقتضى القانوني لردع أي مظهر من مظاهر العنف أو تجاوز القانون.
وبات واضحا أن الجامعات ليست كلها شرا، فهي ما زالت حاضرة بقوة بإبداعات طلبتها وأساتذتها ويجب أن يشار لها باهتمام، سواء النشاطات الطلابية والأبحاث الطلابية والتمييز والتفوق الذي يسجله الطلبة عبر الشركات الطلابية وعبر النشاطات اللامنهجية ومشاريع التخرج، وعندما تكون ضيفا على الجامعة لنشاط أو لقاء تلمس هذا الأمر وتعيشه، وعندما تشارك أساتذة جامعيين نشاطا قائما على البحث العلمي تجد ما نتحدث له. صحيح أن هناك أساتذة يصرون أن يكونوا جزءا من المشكلة ويقحمون انفسهم بما يقع بين الطلبة بصورة سلبية ولكن الغالبية الساحقة تصنع فرقا وتساهم.
كم كنت سعيدا في قاعة ورشة العمل عن "السلامة الغذائية" عندما تقدمت مدرسة جامعية من بين الجمهور لتضع النقاط على الحروف لتصويب مداخلة من أحد الحضور عن آثار التعديل الوراثي للفواكه والخضار لنبقى على المسار العلمي.
وهل نسينا خلال جائحة كورونا والإجراءات الوقائية دور أساتذة الجامعات في المشاركة في لقاءات توعوية حول مواضيع تهم الناس في وقت الجائحة.