«قمة الديمقراطية» أو استحضار الأيديولوجيا في المباراة الدولية
الديمقراطية في مأزق... لا أحد يجادل في صحة هذه الفرضية، ومأزق الديمقراطية، عالمي بامتياز، لا يختص بمنطقة دون غيرها، إذ حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية، رأينا الديمقراطية، قيماً ومؤسسات وممارسات، تهتز تحت ضربات "العنصرية" المتفاقمة، و"الشعبوية" المنفلتة من كل عقال.
الشعبيون، غالباً عنصريون، خطابهم "هوياتي"، إن لم يكن هناك "آخر" لاستهدافه، تراهم يجهدون في خلقه، فهو طريقهم لـ"شد عصب" أنصارهم ومحازبيهم... و"الآخر" يمكن أن يكون "المختلف" في اللون أو العرق أو الدين، أو حتى في الجنس، ويمكن أن يكون "المهاجر" و"اللاجئ"... هكذا رأينا عنصريي أوروبا والولايات المتحدة، ينزلون بمعاولهم على رؤوس "المختلفين"، دون هوادة، ضاربين عرض الحائط، بقيم وتقاليد ومؤسسات، ترسخت وتجذرت على امتداد أزيد من قرنين من الزمان.
ليس من باب "التطيّر" الإدلاء بتقدير من هذا النوع... دعونا نستحضر "النبوءات المتشائمة" التي سبقت ورافقت الانتخابات الرئاسية الأميركية، دعونا نستدعِ "جورج فلويد" وهجوم الغوغاء المشبع بخطاب الكراهية على مبنى الكونغرس... دعونا نراجع أدبيات اليمين الشعبوي الأوروبي، ضد المهاجرين واللاجئين، دعونا نستذكر الهجمات على المجتمع المدني ومؤسسات القضاء والإعلام التي شنّها رموز هذا اليمين، كل من موقعه وبلغته وفي سياقاته.
أن ينتصر الرئيس الأميركي جو بايدن، لفكرة استنهاض الديمقراطية واستنقاذها، فهذا أمرٌ محمود ومطلوب، وأن يقارب هذه المهمة من منظور عالمي (القمة)، فهذا أمرٌ مفهوم كذلك، طالما أننا اتفقنا على "عالمية" المأزق الديمقراطي... لكن ليس هذا سوى بعدٍ واحدٍ، من أبعاد قمة الديمقراطية العالمية المنتظرة، وأحسب أنه ليس أكثرها أهمية وراهنية من وجهة نظر منظميها والداعين لها.
لا يخفى على أحد، أن الصين أولاً، ثم روسيا في المقام الثاني، هما المستهدفتان بتقسيم العالم إلى "فسطاطين"، واحد "ديمقراطي" وآخر "استبدادي"، ولا يخفى على أحد كذلك، أن سبب الاستهداف إنما يندرج في سياقين: جيو - اقتصادي في الحالة الصينية، وجيو - استراتيجي في الحالة الروسية، مع أن الفصل الكلي بين السياقين، متعذر علمياً، وغير صحيح عملياً.
نحن، إذاً، بصدد إضافة "جرعة إيديولوجية" للحرب الباردة الثانية مع الصين وروسيا، تذكر بما كان عليه الحال، زمن الحرب الباردة الأولى، بعد أن ظل التنافس بين الأقطاب الدولية "قليل الدسم" من الناحية الأيديولوجية، منذ سقوط جدار برلين وطيلة سنيّ هيمنة "القطب الواحد" وتفرده على الساحة الدولية... هنا، يمكن القول بقليل من التحفظ، إن "قمة الديمقراطية" إنما تندرج في هذا السياق، سياق الحفاظ على "الهيمنة" الأميركية، التي قال عنها صاحب "نهاية التاريخ" في مقالة "الإيكونوميست"، أنها انقضت، ولا مجال لاستعادتها.
بهذا المعنى، وفي هذا السياق فقط، يمكن فهم "الصحوة الأميركية" لاستنقاذ الديمقراطية، مع أن الولايات المتحدة، زمن ترامب بخاصة، وحتى في زمن بايدن، وإن بدرجة أقل، لم تعد تولي "الديمقراطية وحقوق الإنسان" أهمية خاصة كمعيار أساسي في علاقاتها الدولية، فهي ترتضي إقامة أوثق العلاقات والتحالفات، مع حكام وعواصم، لم يُعرَفوا يوماً، سوى بسجلهم الاستبدادي وانتهاكاتهم الفظيعة لحقوق الإنسان، ولنا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، "مختبر" لم يتوقف عن تزويدنا بالأمثلة والتجارب الدالة على صحة ما ذهبنا إليه.
كنّا سنضع "القمة العالمية" في سياقها الصحيح، كمحاولة لاستنقاذ الديمقراطية، لو أنها بدأت بجهود جبارة لتجفيف منابع "العنصرية" و"الشعبوية" في بلدان المنشأ الغربي، كأن يتداعى قادة الغرب أولاً، لترتيب بيتهم الداخلي، وترميم ما خَرِب سنوات الصعود المقلق لهذه التيارات في الغرب... وكنّا سنفهم أكثر، لو أن القمة وضعت خارج سياق "المباراة الاقتصادية" و"الجيو - استراتيجية مع الصين وروسيا على المسرح الدولي... لكن أما وقد تم إدراجها في هذا السياق، فمن حق المراقبين في قارات العالم المختلفة، التساؤل ما إذا كان للأمر صلة بالحرب على "هواوي" أو "نورد ستريم"، من حق المراقبين أن يروا في القمة طريقاً التفافياً حول "مبادرة الطريق والحزام"، وصعود روسيا على المسرح الدولي.
لست هنا، أجادل بأن كل من موسكو وبكين، توفران لكل الاستبدادين في العالم، أطواق نجاة وبدائل حين يتعذر عليهم الحصول عليها من الغرب... ولست أختلف مع من يقترح، بأن اللجوء إلى القوتين العالميتين، هو ما يفكر حتى بعض أصدقاء أميركا وحلفائها، حين تتسع شقة الخلاف بينهم وبينها... لكن السؤال الذي يدهم كل من هم في جنوب الكرة الأرضية: لماذا لا يلجأ الغرب إلى الأدوات الاقتصادية وقوانين السوق، لوقف الزحف الصيني على العالم، ولماذا اللجوء إلى الضغوطات والعقوبات لمنع تقدم "التنين الأصفر"، ولماذا لغة التهديد والوعيد حتى مع الأصدقاء، بمن فيهم الأوروبيون، حين يرفعون مستوى وسوية تبادلاتهم مع بكين أو موسكو؟
هي محاولة لاستدخال أدوات ومفردات، من خارج قاموس السوق والمنافسة والتجارة الحرة، وغيرها من أقانيم النظرية الرأسمالية، لضمان التفوق والاحتفاظ بالحصة من كعكة الاقتصاد العالمي ومنع تناقصها المستمر، حتى وإن تطلب ذلك، استعادة "الأيديولوجيا" إلى العلاقات والتبادلات الدولية.
لو أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، يقفزان لتأمين الطلب على مشاريع الطاقة والبنى التحتية في دول العالم الثالث، لما انخرطت معظم هذه الدول، في "مبادرة الطريق والحزام"... ولو أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، تتعامل بذات الطريقة، مع "دزينة" من الدول العربية على الأقل، وضع حقوق الإنسان والديمقراطية فيها، أسوأ بكثير مما هو عليه في روسيا على سبيل المثال، لقلنا إن الغرب تخطى "حكاية" المعايير المزدوجة"، وبات ينظر للمسألة من زاوية أخلاقية وقيمية عُليا... لكن هذا لا يحدث، فيما الشكوك حول صدقية "الشعارات" والأهداف التي تسبق القمة وتصاحبها، لا تتبدد أبداً.
ثم، هل نسينا كيف تعامل المجتمع الدولي مع جائحة كورونا؟... وكيف تكشفت الأزمة غير المسبوقة، عن غياب المعايير الإنسانية والأخلاقية مع التعامل بقضايا "الكمامات" و"المعقمات" و"أجهزة التنفس" عند بدء الأزمة، ومع اللقاحات بعد تفاقمها؟... ألم تصدر في الغرب ذاته، عشرات المقالات، التي أكدت خسارة الغرب للمعركة الأخلاقية في مواجهة الصين في التعامل مع هذه الجائحة؟... ألم تجد الدول الفقيرة، ضالتها منذ البداية في اللقاح الصيني، (برغم ما يقال عن محدودية فعاليته)، الذي أعيد تصنيعه في عدد منها، في الوقت الذي تمسك فيه الكارتيلات الدوائية الغربية، عن مد يد العون، والتخلي عن "حقوق الملكية الفكرية"، مفضلة جني مليارات الدولارات من الأرباح، على حساب شعوب مستضعفة، لم تتجاوز نسبة من تلقوا اللقاح الإثنين بالمئة، حتى يومنا الحاضر؟
مأزق الديمقراطية في العالم، له أسباب أشد تعقيداً وتشابكاً، من أن تختصر بواحدٍ منها، ومن الإفراط في السذاجة والتبسيط، الاكتفاء بتحميل الصين وروسيا، وزر التقهقر الذي أصابها في السنوات الأخيرة... مأزق الديمقراطية عالمياً، يكمن أساساً في التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي ضربت حواضرها في السنوات الأخيرة، والتبدل الكبير الذي طرأ على البنى "الديموغرافية – الاجتماعية" لهذه الحواضر، وتفاقم الأدوار التي تلعبها الكارتيلات العملاقة في ميادين السلاح والطاقة والمعلوماتية، في صنع السياستين الداخلية والخارجية لهذه الحواضر، والتي تمتد تأثيراتها الضارة إلى دول العالم الثالث على اتساعه.
روسيا والصين، ليستا أبداً في موقع تحفيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وكما دللت تجارب البلدين وعلاقاتهما الدولية، فهما تفضلان التعامل مع "الزعيم الفرد" و"القائد الملهم" على أن تخوضا غمار التعامل مع نظام ديمقراطي تعددي... ولكن من قال إن كثيرٍ من الديكتاتوريين في منطقتنا والعالم، ما كانوا ليبقوا على سدة عروشهم لأسبوعين اثنين، لولا الحماية الأميركية والتغطية الأوروبية؟ ألم يصرح دونالد ترامب محقاً، ونادراً ما يكون محقاً، بهذا الشأن؟
الديمقراطية بحاجة لمن يستنقذها، والرأسمالية بحاجة لمن "يؤنسنها"، وخط البداية على المسارين، يبدأ من الحواضر الغربية ذاتها، أما بقية الأسباب والعوامل المُفضية إلى "المأزق"، فتأتي في المرتبة الثانية.