هل تفتح إسرائيل أرشيفها الدمويّ الأسود؟
بعد يومين فقط من إعلان وزيرة الثقافة الفرنسية في العاشر من الشهر الجاري، قرب رفع السِرية عن أرشيف التحقيقات القضائية لقوات الدرك والشرطة الفرنسية حول الحرب الجزائرية بين عامي 1954- 1962، دعت أُسرة تحرير صحيفة هآرتس الصهيونية في مقالة لها تحت عنوان «دعوا الأرشيف يتحدث» (12/12) دعت حكومة اسرائيل إلى فتح أرشيفها، بادئة افتتاحيتها بالقول: ارتكب جنود الجيش الإسرائيلي جرائم حرب في «حرب استقلال» اسرائيل، وعلى رأسها المذابح في القرى الفلسطينية التي احتُلّت في معركة الحسم في الساحل.. في الجليل وفي النقب، وروى – أضافت – أبناء ذلك العهد عن قتل جماعي لمواطنين فلسطينيين على أيدي المقاتلين الذين احتلوا قراهم، عن صفوف الإعدام – استطردت – وعن تجميع عشرات بني البشر في مبنى جرى تفجيره.. عن تحطيم رؤوس الأطفال بالعصي، عن اغتصاب عنيف وعن أَمرٍ للسكان بتجهيز حفر وقتلوا بإطلاق النار عليهم فيها.
عرض تفاصيل مروعة كهذه ليس جديداً بالنسبة للفلسطينيين والعرب، وهي معروفة جيداً لكل من قرأ يوميات النكبة وسردياتها, حتى تلك التي ادّعت الحياد وذهبت بعيداً في مساواة الضحية والجلاّد. بل إن ما سردته الصحف الصهيونية منذ النكبة حتى الآن, وفي فترات متباعدة تطابَقَ حدود التماهي مع الرواية الفلسطينية. غير أن مجرد العودة للحديث عنها في هذا التوقيت، يكتسب أهمية إضافية في ضوء التعتيم الذي تواصل المؤسسات العسكرية والاستخبارية الصهيونية فرضَه على معظم الأرشيف السرّي الصهيوني؛ عن طبيعة ووقائع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني قبل وخلال وبعد النكبة في العام 1948, التي يصفها المستعمِرون الصهاينة بـ”حرب الاستقلال». رغم أن دولة العدو الصهيوني رفعت السرية عن «بعض» الوثائق, إلاّ أن معظمها تم تمديد الحظر عليه حتى ربع قرن مقبل.
هنا يدخل الكاتب التقدمي، أو لنقل الموضوعي بنسبة عالية، جدعون ليفي، على خط مسألة رفع السرية عن الأرشيف، ليقول في مقالة له بصحيفة هآرتس تحت عنوان «أنا وأنت والحرب الماضية» (13/12): تُخفي إسرائيل ماضيها من أجل تبرير واقعها.. لأن الجزء المُظلم من ماضيها لم ينته في العام 1948، ولم يكفّ عن الوجود في أي يوم, مُعتبراً أن مقالة هيئة التحرير في صحيفة هآرتس, الذي يدعو لفتح الأرشيفات وكشف كل الحقيقة عما حدث في العام 1948، بما في ذلك كل المذابح وجرائم الحرب التي ارتكبها جنود الجيش الإسرائيلي عام 1948. بالطبع – يُضيف ليفي – لا توجد مطالبة مُحقّة أكثر من هذه، معتبراً أنه مع مرور 73 سنة؛ مسموح لمواطني الدولة أن يعرفوا كل شيء عمّا تمّ فعله باسمهم في الحرب الأولى (يقصد النكبة)، مستطرداً: فقط دولة تخجل مما فعلته تقوم بإخفاء ماضيها الذي تتفاخر به.. إسرائيل ـ يُواصِل ــ التي تُخفي ماضيها، هي دولة تعرِف في أعماقها منذ ولادتها «العادلة» أنها جاءت بخطأ كبير وعميق..
حان الوقت – يقول ليفي – للنظر في عين الحقيقة ومواجهة تداعيات واستخلاص دروسها، وقد فات إسرائيل هذا القطار منذ زمن.. فتح الأرشيف –- يختم ليفي- وكشف الحقيقة لن يزيد ولن يُنقص أي شيء.
هنا، الآن، يحضر الكتاب/الوثيقة المهمة والدامغة الذي نشره الأكاديمي البارز البروفسور «اليهودي المكروه والمُتّهم بمعاداة السامية».. إيلان بابية وكتابه الموسوم «التطهير العرقي في فلسطين»، الذي وصفه جون بلغر بأنه «أشجع مؤرخ إسرائيلي وأكثرهم تمسكاً بالمبادىء وأَحدّهم مضاءً». حيث فصّل فيه بالوثائق والمعطيات التاريخية والشهادات الحية، عمليات الطرد الجماعي الهائل لجموع الشعب الفلسطيني، التي تم تشويهها والطمس عليها وكيف فشِل العالم، وبخاصّة العالم المسمى زوراً العالم الحرّ والمدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان, والمنادي كذباً بحق تقرير المصير للشعوب المُستعمَرة، في حلّ هذه المشكلة الإنسانية والأخلاقية، التي تجسّدت في ما كان يوصف في وقت النكبة – ترانسفير – وفي مُصطلحات القرن الجديد بـ«التطهير العرقي».
في السطر الأخير، يربط جدعون ليفي المشهد الماضي بالمشهد الراهن، على نحو جدلي ومُتصل قائلاً: الأسلوب تغيّر والأبعاد تغيّرت، لكن السياسة التي تم إيقاعها والمعايير الأخلاقية والنظرة للعرب لم تتغير أبداً، إذ أن معظم الإسرائيليين لا يرون في الفلسطينيين بشراً مثلهم. – إذ اعترفنا – يضيف ليفي – بالمذبحة في الحولة في 1948، فسنضطر للاعتراف أيضاً بجريمة قتل المتظاهرين في قرية بيتا أول أمس. إذ اعترفنا بأننا طمسنا وأَخفَينا ما تعلّق بمذبحة البرج في 1948، فإننا سنضطر للاعتراف بأننا كَذبّنا فيما يتعلق بتبرير اعدام حامل السِكّين في باب العامود يوم السبت الماضي. عن “الرأي الاردنية”