المقاطعة من إيرلندا إلى جنوب أفريقيا
مقالات

المقاطعة من إيرلندا إلى جنوب أفريقيا

قمت الأسبوع الماضي بكتابة ونشر رسالتين لكل من الكاتبة الإيرلندية سالي روني وملكة جمال جنوب أفريقيا لاليلا مسواني. الأولى كانت رسالة تقدير وامتنان للروائية الإيرلندية على تضامنها الأخلاقي والمبدئي مع الشعب الفلسطيني، إذ إنها كانت قد رفضت السماح لدار نشر إسرائيلية مرتبطة بالمؤسسة الحاكمة ترجمة رواياتها ونشرها في إسرائيل، حيث قالت روني إن ذلك يأتي استجابة لنداء المجتمع المدني الفلسطيني بمقاطعة دولة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها، وذلك بالضرورة يشمل المقاطعة الثقافية.

في الحالة الثانية كانت الرسالة الموجهة لملكة جمال جنوب أفريقيا تطلب منها الانسحاب من مسابقة ملكة جمال العالم، المقرر إقامتها في شهر ديسمبر على أنقاض قرية أم الرشراش الفلسطينية المطهرة عرقيا، وانطلاقا من تاريخ العلاقات بين الشعبين الفلسطيني والجنوب أفريقي والتجربة المريرة من تفرقة عنصرية واضطهاد عرقي مورس بحق أبناء جلدة “الملكة”.

في الحالة الأولى، هناك فعل تضامني فعّال يقوم على أسس مبدئية من دفاع عن حقوق الإنسان، واحترام للقوانين الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان واستنكار لجرائم حرب ولجرائم ضد الإنسانية، تمارسها منظومة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني.

في الحالة الثانية هناك تخلٍّ كامل عن المسؤولية الفردية، وإنكار لدور مسابقة ملكة جمال العالم، وتجميل لنفس المنظومة في إطار حملة تعمل على تسويق الأبارتهايد والاستعمار كمحبين للجمال، وبالتالي إلقاء اللوم على من يدعي غير ذلك.

يبقى السؤال الذي دائما ما يوجَّه لنشطاء المقاطعة وللجان وحملات التضامن مع الشعب الفلسطيني عن مدى فعالية هذه الأشكال من المؤازرة، وفي الوقت نفسه عدم طرح بدائل لوسائل تضامنية أكثر فعالية.

في كثير من الأحيان يقوم المتضامن المخلص بطرح سؤال عما يريده الشعب الفلسطيني عمليا، بمعنى ماهيّة الحقوق التي يناضل من أجل تحقيقها ويتمحور حولها إجماع فلسطيني، وعن أنجع الوسائل التي يمكن اتباعها من قِبل من يؤيد هذه الحقوق.

برزت أهمية هذا التساؤل بعد الفشل الذريع لاتفاقيات أوسلو، وطرح تساؤلات نقدية مشروعة عن وسائل المقاومة الأخرى التي تم اتباعها والتي هيمنت على وهمشت الأشكال الكفاحية الأخرى على حساب التضامن الأمميّ، وحتى المقاومة الشعبية.

لذلك قام المجتمع المدني الفلسطيني بإصدار نداء المقاطعة عام 2005 حيث تم توجيه دعوة للمجتمع الدولي، المدني منه بالذات، لمقاطعة منظومة الأبارتهايد والاحتلال وسحب الاستثمارات منها ومن الشركات الأجنبية التي تستفيد من خرقها للقانون الدولي، و من ثم فرض عقوبات عليها، حتى تستجيب لما يُسمّى بالشرعية الدولية، من خلال انسحابها من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينصّ صراحة على عودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، وإنهاء قوانين التفرقة العنصرية التي تميزها كدولة أبارتهايد. هذه هي الحقوق التي يناضل من أجلها الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وفي جميع أماكن تواجده، حقوق متكاملة لا يمكن الفصل بينها بأي شكل من الأشكال، فلا يمكن القبول بحقوق مكون على حساب حقوق مكون آخر. وهي حقوق مبنية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتتبنى أدوات كفاحية مستلهَمة من التراث النضالي الفلسطيني ونضالات الشعوب الأخرى التي عانت من أشكال مشابهة من الاضطهاد العنصري الاستعماري، بالذات دولة جنوب أفريقيا التي قامت حكومتها مشكورة بسحب دعمها لملكة جمال البلاد، ودعتها لعدم التوجه لأم الرشراش.

نحن نمرّ بمرحلة فارقة ولحظة تاريخية حاسمة لم تستطع القوى السياسية التقليدية استيعابها لعدة أسباب ليس هنا مجال الخوض بها. ولكن ما يلفت النظر هو أن “القديم يحتضر، و الجديد لم يولد بعد، وفي ظل هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية غاية في التنوع”، على حد قول أنطونيو غرامشي. وبالتالي هناك من يتمسّك بالماضي وأدواته دون إبداء أي رغبة في التجديد و الانفتاح على تجارب أثبتت نجاعتها في مقارعة منظومات هيمنة كبرى. هناك خلل في أدوات التحليل، وبالتالي في وسائل المواجهة، وإنكار لمدى قدرة الأدوات الكفاحية الأخرى على تشكيل جبهة تضامن أممي، تستطيع التصدي لما أطلق عليه الراحل الكبير إقبال أحمد “القوة اللاأخلاقية” كشكل من أشكال “أمراض السلطة”.

لكلّ ذلك؛ يهمنا للغاية ما قامت به سالي روني، وقبلها الآلاف من الكتاب والفنانين، من فعل تضامني أخلاقي بنّاء، وسنبذل قصارى جهدنا مع رفاقنا ورفيقاتنا في تحالف المقاطعة في جنوب أفريقيا لإقناع لاليلا مسواني بعدم المساهمة في تجميل القبح الاستعماري في فلسطين، كما ساهمنا نحن بدورنا بعزل نظام الأبارتهايد العنصري في دولتها، حتى سقوطه النهائي في مزبلة التاريخ.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.