لا كلام بعد يافا على الدرج
مقالات

لا كلام بعد يافا على الدرج

لا يخرجُ المشاهدُ سليماً بعد مشاهدة فيلم (يافا أمّ الغريب) لرائد دزدار، غصة في العظام واهتزاز عنيف في القلب وحسرة في العقل لا توصف.
على الدرج ونحن نغادر، رأيتُ دموعا تسقط من أصدقاء، وكان آخرون يهبطون دون كلام، الثرثارون الذين أعرفهم لم يتكلموا كلمةً واحدةً، لم يتبادلوا الآراء السريعة، ولم يقولوا مثلا: كان فيلما جميلا حقّا، إذ لا كلام بعد يافا على الدرج، واستطعتُ أن افهم وجوم وجه قاطع التذاكر الذي شاهد الفيلم معنا.
لا مدينة تأخذني إلى عنف الجرح الفلسطيني العام أكثر من يافا، في تجربة يافا مع ألم الهدم والتهجير ما يكفينا؛ لنموتَ ألف مرة في اليوم. امس، في مسرح القصبة مات المشاهدون مع كل لقطة، مع كل معلومة، مع كل موجة من بحر يافا.
لا أحب اللطم وراء المدن الجميلة المهدّمة، ولا الأشخاص الرائعين الآفلين، ولكنّي دائما أحبُّ أن أقول: إنّ بقاء الإحساس بالألم وتطويره في القلب هو خير وسيلة لاستعادة مدن البهجة الراحلة.
في كتابه القاسي المروّع الذي أقرؤه هذه الأيام (أرض ميعادي) يروي الصهيوني الذي يدعي أنه يساري (آري شبيط) حكاية القارب الذي هبط في ميناء يافا قادما من لندن العام 1897م، حاملا فيه جدّه الصهيوني وآخرين، جاؤوا؛ ليروا المشهد العام الفلسطيني قبل تحطيمه.
خرجتُ من كتاب (آري شبيط) إلى مسرح القصبة؛ لأشاهدَ يافا وهي تتحطّم عبر حكايات وقصص تسعينيين فلسطينيين كانوا شبابا في يافا قبل التحطيم.
خلف كلّ لقطة، كنتُ أرى القارب المجرم وهو يتقدّم من يافا، وأشمُّ رائحة القتلة وهم يشرعون عيونهم باتجاه يافا الجميلة، ويفركون أيديهم جذلينَ وهم يصيحون في الريح: سنقتل هذه المدينة قريبا.
لا كلام على الدرج بعد يافا، يغادرُ المشاهدون قاعة السينما، يغلقُ المسرح أبوابه، لكنّ جرح يافا يظل خلفنا وأمامنا وفينا مفتوحا في كل مكان، الأشخاص اليافاويون المنفيون في العالم الذين اختارهم المخرج الموهوب والحسّاس رائد دزدار، كان معظمهم في العشرين في زمن مجد يافا، لقد عرفوا وشاهدوا كلّ شيء هناك، كان الجرحُ يتمدّدُ أمامهم مثل ديناصور لا ينقرض، حكوا لنا حكايات رهيبة عن يافا، يافا التي ادّعى أعداء حياتنا أنها أرضٌ بلا شعب، وبلا حضارة، يافا الشعراء العرب والمصانع والأفلام السينمائية، والفرق الموسيقية، يافا المقاهي والميناء والمدارس الفرنسية، يافا الرياضة، يافا الصحافة المتقدمة، يافا البرتقال، يافا المواصلات الحديثة والملاهي والمتاجر.
دموع التسعينيين الذين مات معظمهم بعد إنتاج الفيلم لم تكن مرئية وهم يتحدثون عن حياتهم في يافا، لكن المرحوم (انطون خوري) احد هؤلاء فجر ينبوع عينيه وهو يتحدث عن حسرة أبيه الذي بنى اجمل عمارات يافا وخرج دون أن يستمتع بوجودها، الحاج أبو نزار شحادة صاحب اليد الذكية، كان شاعرا عظيما وهو يصف بدقة رهيبة مراحل حياة البرتقالة اليافاوية من القطف وحتى وصولها إلى أوروبا في صناديق.
لا كلام على درج مسرح القصبة بعد يافا.
ماذا فعل بنا أوبريت (يافا على البال) الذي تم بث مقاطع منه بين لقطات الفيلم بصوت وألحان الفنان غازي شرقاوي وكلمات اسحق حمامي؟
كانت مهمته المخيفة تصعيد الإحساس بفجيعة الفقد، إذ وحدها الأغاني من تكشف وتكثف وتعمق.
(من نابليون لابو الذهب، يا يافا شفت العجب، سلب ونهب والله إشي زي الكزب).
شكرا رائد أيها المخرج الحساس اللطيف الجالس بيننا بخوف وارتباك: وكأنك تقول لنا: والله هذا ما حدث ليافا واعتذر عن عنف الألم.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.