تغيير قواعد اللعبة..!!
مقالات

تغيير قواعد اللعبة..!!

يحدث عند قراءة كتابين في وقت واحد، حتى وإن كانا في موضوعين مختلفين، أن يشتغل كلاهما وسيلة إيضاح للآخر، فيفسّر ما استعصى على الفهم هنا، أو شابه اللبس هناك. وهذا ما حدث في الأيام القليلة الماضية التي أنفقتُ جانباً منها في قراءة «سماء في فوضى» لسلافيو جيجيك، و»أعداء وأصدقاء» لجويل روزنبرغ. المسافة بين الكتابين والكاتبين بعيدة بعد الأرض عن السماء. ومع ذلك، يصلح كلاهما مرآة للآخر، كما سنرى.
جيجيك مفكر وأكاديمي من سلوفينيا. كان مواطناً وماركسياً في يوغسلافيا، الدولة التي غابت عن الوجود، وبقي ماركسياً بعدها رغم ما ينجم عن المصائر القلقة لهويات المواطنة، بعد انهيار إطارها الدولاني، من مخاطر قد تكون نتيجتها الحرب الأهلية، كما حدث في يوغسلافيا، وبلدان الاتحاد السوفياتي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية.
وعلاوة على انفتاح هويته، وبعدها الأممي، وصلابة عوده بالمعنى الأيديولوجي، يمتاز جيجيك بخفة الدم، ويفسر أحياناً فكرة لامعة بحوار في فيلم أميركي، ولا يندر أن يستعين في توضيح فكرة فلسفية معقّدة بنكتة لا تنجو، أحياناً، من كونها مكشوفة. وهو صديق لفلسطين، ومتضامن مع قضيتها العادلة، كما هو صديق وحليف لكل قضايا الحرية في العالم، وقد زارنا أكثر من مرّة في رام الله. والكثير من طريقته في الكتابة يحضر في كتابه الجديد.
لا يوجد، للأسف، الكثير من أمثال جيجيك في العالم. أعني المثقف الراديكالي الذي يتجاوز تأثيره حدود بلاده، ويمارس قدراً من التأثير على جمهور واسع، في بلدان مختلفة، بلغات مختلفة، وفي سياقات مختلفة، ولكن المشترك بينها هو الدفاع عن قضايا الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، (بلغة ثورات الربيع العربي، لكي لا يجهلن أحد على أحد).
جيجيك، بهذا المعنى، مشغول بالعالم، ولا معنى للشغل، والانشغال بالعالم، سوى حراسة القيم، لا بالكلام الغامض والعام، بل كما تنص الدلالة الفلسفية لمفردات وشعارات الربيع العربي، ولا على طريقة نصّابين يمارسون «الترفّع» عن السياسة والسياسي، باسم الثقافة والثقافي، بل على طريقة العامل في الحقل الثقافي، الذي يرى في الهم السياسي هماً ثقافياً، في المقام الأوّل والأخير.
وبما أنه في العالم، ومشغول به، لا يتجلى تضامن جيجيك مع الفلسطينيين إلا بوصفه نقداً للكولونيالية الإسرائيلية، ولا يردد كلاماً فارغاً عن «السلام والازدهار» في الشرق الأوسط، بل يفضح هذا الكلام بوصفه محاولة لتمويه ما هو أكثر إثارة للذعر مما يجرؤ أصحاب «إبراهيم وصنّاع سلامه» على الإفصاح عنه، والاعتراف به.
وعند هذا الحد نصل إلى الكتاب الثاني «أعداء وحلفاء» الذي يحمل عنواناً فرعياً هو «رحلة لا تنسى داخل الشرق الأوسط المضطرب وسريع الحركة». وهذه لغة استشراقية، وسخيفة. على أي حال، يحمل جويل س. روزنبرغ، صاحب الكتاب، الجنسيتين الإسرائيلية والأميركية، وينحدر من أب يهودي وأم مسيحية، وقد اعتنق المسيحية الإنجيلية (وهذه كارثة في نظر اليهودية الأرثذوكسية)، وجد في «سلام إبراهيم» النور في آخر النفق، وفي تاجر العقارات الأميركي النصّاب مخلّصاً «لشعب الرب» من طراز جديد.
يمارس روزنبرغ، إلى جانب التبشير بخلاص «شعب الرب»، كتابة الروايات (في رصيده الكثير منها، وهي عن الأخيار والأشرار، بطبيعة الحال، ولا يحتاج الأمر إلى مهارات خاصة لمعرفة من هم الأخيار ومن هم الأشرار في رواياته). واللافت وجود عبارات ثناء، في الصفحات الأولى، على الكتاب والكاتب تحمل أسماء مايك بنس، نائب ترامب، وبومبيو وزير خارجيته، إضافة إلى رؤساء سابقين لوكالة الاستخبارات المركزية، وآخرين شغلوا مناصب حسّاسة إلى حد يبرر الكلام عن الأخ روزنبرغ بوصفه «واصل» و»ابن ناس» كما يُقال بالعامية المصرية.
وإذا لم تشف عبارات المديح الغليل في تفسير ما في الكتاب من «بشارة»، فإن روزنبرغ لا يتوانى عن تفسيرها. فالشرق الأوسط يشهد، كما يرى، ميلاد تحالف يضم الإسرائيليين والعرب في مجابهة الأفعى الإيرانية. أما الثمن الذي سيجنيه الإسرائيليون والعرب من التحالف فيتمثل في تحقيق «السلام» و»الازدهار». وللمفردتين أصداء تدوي في كل صفحة من صفحات الكتاب.
وهنا، أعود إلى جيجيك، الذي يصف «فوضى» العالم في الوقت الحاضر بوصفها (في المقام الأوّل) تقسيماً وانقساماً أصاب الفضاء الرمزي، بعد نهاية الحرب الباردة، ليصبح التقسيم والانقسام بين قوى متصارعة في حدود البلد الواحد، لا بين عالمين كما كان الشأن في زمن الحرب الباردة.
والمهم، أن لا معنى للتقسيم والانقسام دون وجود فضاء رمزي يعيشان فيه، ويمثل حاضنة دلالية لفعل الانقسام والتقسيم. اللغة هي الفضاء الرمزي، فهي الوسيط الذي يُعاش الواقع من خلاله، والوسيط الذي يمكّن الناس من العيش في عوالم مختلفة حتى وإن سكنوا الشارع نفسه.
ولنفكر في مفردة الفقر، مثلاً، الفقير لا يثور لأنه يعاني من آلام ومصاعب الفقر، بل يثور عندما يعي الفقر بوصفه نتيجة منظومة اجتماعية ـ سياسية ـ أيديولوجية تشرعن الظلم واللامساواة، وتجرّد كلمة الفقر من دلالتها الاجتماعية، للتغطية على فعل السرقة، الذي ينجب الأغنياء والفقراء في آن.
وهنا «يتفاعل» كتاب جيجيك مع كتاب روزنبرغ بطريقة تجعل من الأوّل نقداً ونقضاً للثاني. فكل ما يُثار حول «السلام» من ضجيج وضوضاء يستهدف تمويه حقيقة أخطر وأهم: «نشوء محور شر جديد»، و»تطبيع» فعل التدمير الذي أصاب بلداناً كليبيا وسورية واليمن، ويتجلى كمصير محتمل لغيرها. هذا هو المعنى الحقيقي «لتغيير قواعد اللعب» في الشرق الأوسط، والتعبير أيضاً لجيجيك. فاصل ونواصل.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.