الاســتــدامــة: المفــهـــوم والـركـائـز
مقالات

الاســتــدامــة: المفــهـــوم والـركـائـز

احتل موضوع الاستدامة مركزاً مهماً في قضايا القرن الواحد والعشرين، وتزايد استخدام مصطلحها بشكل ملحوظ فأصبح متصدراً لعناوين الأخبار اليومية العالمية منذ بداية هذا العام 2021، خاصة بعد أن سنّت معظم الدول المتقدمة التشريعات للحفاظ على بيئة نظيفة والتزمت بخفض نسبة انبعاثات الكربون للحد من تدهور المناخ وضمان توفير ديمومة العيش الآمن للبشر.

تنبع أسباب اهتمام العالم بالاستدامة من مفهومها ومن الركائز التي تستند إليها.

وفي سياق الحديث عن الإنسان، يرتبط مفهوم الاستدامة ارتباطاً وثيقاً بقدرة كوكب الأرض على الاستمرار في تزويد البشر، عبر الأجيال المتعاقبة، بالموارد اللازمة لضمان تمتعهم بحياة عالية الجودة. تشتمل تلك الموارد على الهواء النقي والماء النظيف والتربة الصالحة لإنتاج الغذاء الجيد.

الاستدامة ليست مفهوماً جديداً، فقد كان الإنسان الأول يتنفس الهواء العليل ويشرب من مياه الأنهار والينابيع النظيفة، ويأكل مما تنتجه الأرض من نباتات وما يصطاده من حيوانات وما يجمعه من حطب يستخدمه في الطهي والتدفئة.

وقد كان إنتاجه يدوياً يفي بحاجاته. لقد وفر كوكب الأرض جميع هذه الموارد ومكّن البشر من العيش لملايين السنين دون أن يؤرقهم موضوع استدامة هذه الموارد إلى أن بدؤوا في استهلاكها بشكل مفرط لإنتاج ما يفوق احتياجاتهم بكثير. بسبب هذا الاستغلال غير المسؤول، بات التناقص المتسارع في حجم موارد الأرض وتدني مستوى جودتها، خطراً يهدد استمرارية جودة حياتنا وحياة الأجيال القادمة.

في السياق التاريخي، تزايد استغلال ما في باطن الأرض وما عليها من قبل الإنسان أثناء محاولاته لحل المشكلات التي اعترضت طريق نموه. فعلى سبيل المثال، حقق اكتشاف الفحم الحجري واستخراجه من باطن الأرض في نهاية القرن السادس عشر، نجاحاً ملموساً  في حل مشاكل توفير الطاقة التي تلعب دوراً أساسياً في تنمية المجتمعات والدول.

ومع ظهور الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، زاد استهلاك الفحم واستُخدِم في تشغيل المحركات والقطارات وخطوط الإنتاج. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين تم اكتشاف مصادر جديدة للطاقة شملت التيار الكهربائي والبترول الذي حل محل الفحم الحجري في توليد الطاقة لكونه أقل كلفة ومخاطر، وأسهل نقلاً.

ساهم استخدام مصادر الطاقة المتنوعة في تطوير التكنولوجيا التي عملت بدورها على تسهيل حركة النقل والتجارة وتوسيع نطاقها وتنويع وسائلها لتشمل السيارات والطائرات والقطارات، كما ساهم في تسهيل عمليات التواصل وتطوير جميع عمليات التصنيع والتوسع في العمران وزيادة حجم الإنتاج الغذائي والدوائي وتنمية المجتمعات بشكل عام.  

فعلياً، لقد تمكنت الأجيال السابقة والحالية، عبر تراكم معارفها وخبراتها ومهاراتها، من إطالة معدل عمر الإنسان وتطوير العديد من جوانب حياته، إلا أنها أخفقت في جانب الحفاظ على ديمومة مصادر بقائه. ففي سبيل تحقيق الرفاهية، استُخدِمت التكنولوجيا ووسائل التصنيع والإنتاج بطرق أثّرت سلبياً على جودة المناخ والبيئة والمنتج الزراعي.

في هذا السياق، تم استخدام الأنهار والبحار والمحيطات كمكبات للنفايات ومُخلّفات التصنيع السامة والمشعة، والتي بدورها لوثت المياه وأدت إلى ظهور مشكلات صحيه مستعصية بلغت، أحياناً حد الموت لمن يعيش فيها كالأسماك ولمن يشربها من الإنسان والحيوان.

أما الغازات السامة المحتوية على مركبات الكربون والكبريت والفسفور الصادرة عن حرق الطاقة اللازمة للتصنيع أو الناتجة عن استخدامات المبيدات الحشرية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية والمواد المشعة، فقد تسببت في تلوث الهواء وتحمض المحيطات ومياه الأمطار، والتصحر، والاحتباس الحراري، وانتشار الحرائق والأعاصير، ونضوب طبقة الأوزون، وانقراض بعض الكائنات الحية.

أدت تلك الممارسات، بالإضافة إلى الزيادة المطّردة في أعداد البشر، ما يعرف بالانفجار السكاني، إلى استنزاف الموارد الطبيعية بتسارع أُسّي فاق قدرة الأرض على تجديدها.

وعلى التوازي برزت تحديات اجتماعية متعددة وشائكة ضمت الفقر واستغلال العمال وعدم تكافؤ الفرص في الحصول على الطعام والمأوى والتعليم والعلاج والعمل والضمان الاجتماعي، إلى جانب تحديات اجتماعية عديدة أخرى.      

حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي، ظل الاعتقاد السائد أن الطبيعة هي شيء يجب التحكم به من قبل البشر كشرط للتحضر.

وكانت كل مشكلة ناجمة عن استغلال البشر المفرط للموارد تعالج بشكل مُجَزأ يستند إلى منظور كون الإنسان منفصلاً عن البيئة.

لم ينجح هذا المنحى في حل المشكلات البيئية والاجتماعية والاقتصادية المتداخلة وبالغة التعقيد والناجمة عن ممارسات البشر المضرة باستدامة عيشهم الآمن، ما تتطلب تحويل التفكير إلى منحى أكثر فعالية.

ساعدت الحركات البيئية في العالم في تحويل التفكير إلى المنظور البيئي الذي ُيمكِن من خلاله رؤية البشر كجزء من البيئة وليس منفصلاً عنها، ودفعت باتجاه تبني المنحى الشمولي التكاملي في ابتكار حلول تعيد الاتزان للموارد الطبيعية وتحافظ على جميع الأنظمة الحيوية متنوعة ومنتجة على المدى الطويل.  

اختلف الناس حول تعريف الاستدامة، إلا أن تعريف الأمم المتحدة لها يعتبر الأكثر شيوعاً، فقد جاء في تقريرها العام 1987 بأنها «التنمية التي تفي باحتياجات الوقت الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة».

ومن أهم مميزات هذا التعريف اهتمامه بالبعد الزمني الذي يشمل الحاضر والمستقبل، وتحديده للتنمية بالاحتياجات، وتمهيده لنقاش الركائز التي تقوم عليها الاستدامة، وتتطلب أخذها بعين الاعتبار عند التفكير في حل المشكلات التي تهدد الحياة الآمنة لهذا الجيل وتعجز عن  توفير احتياجات الأجيال القادمة للعيش بجودة عالية. ففي العام 2005، حدد مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية هذه الركائز بالمجتمع والبيئة والاقتصاد مع التأكيد على أن هذه الركائز تعمل بشكل متكامل ومتداخل يعزز بعضها بعضاً.

من المهم الإشارة إلى أن هذه الركائز تنسجم مع أهداف التنمية المستدامة التي حددتها الأمم المتحدة بسبعة عشر هدفاً في العام 2015، وأن الحوكمة تعتبر القاعدة المشتركة لإدارة هذه الركائز.  

تتمحور الركائز البيئية حول معالجة المشكلات التي تتعلق بنفاد المصادر الطبيعية وسوء الممارسات المستخدمة في استخلاصها والتي بدورها تسببت في حدوث ظواهر مثل  الاحتباس الحراري ونضوب طبقة الأُوزون وتحمُض المحيطات.

وفي سياق إيجاد حلول لتلك المشكلات، يمكن التفكير في البحث عن مصادر للطاقة المتجددة النظيفة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، واتباع وسائل تخفيض انبعاثات الكربون وإعادة التدوير، بالإضافة إلى ابتكار أساليب جديدة لحماية الأنواع الحية المهددة بالانقراض.

تعالج الركائز الاجتماعية القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان بما يشمل العدالة والإنصاف وتوفير الفرص المتكافئة لجميع أفراد المجتمع في التعليم والرعاية الاجتماعية والتوظيف مثلاً.

أما الركائز المالية فتتعلق بالإدارة الجيدة للموارد بما يشمل استثمار الأموال برؤية مجتمعية تنموية بعيدة المدى والاستعداد لمواجهة مخاطر الركود الاقتصادي، وتوسيع العلاقات وتعميقها، والاستثمار في التكنولوجيا لتسهيل الخدمات المقدمة وتنويع الإنتاج وتحسين جودته.

تقع مسؤولية الاستدامة على جميع الأفراد والحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، كل في حدود عمله وصلاحياته.

وفي هذا السياق، تقوم حكومات الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة وبعض مؤسسات المجتمع المدني بتقديم تقارير سنوية تفصح من خلالها عن أدائها في سبيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة نسبة للمعايير العالمية التي حددتها الأمم المتحدة لحقبة زمنية محددة. وفي القطاع الخاص، الذي ما زال مستوى التزامه بالاستدامة ضعيفاً، تُقدم بعض المؤسسات تقارير استدامة سنوية، إلى جانب التقارير السنوية المالية، تفصح من خلالها عن أثر عملياتها وإنتاجاتها في تدعيم الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية، نسبة لمعايير تحددها هيئات عالمية متعددة.  

وتعتبر المبادرة العالمية لكتابة تقارير الاستدامة الأكثر استخداماً في مؤسسات القطاع الخاص، ويتطلب إصدار شهاداتها تأكيد صحة المعلومات المفصح عنها من قبل جهات خارجية.

يحسّن تأكيد تقارير الاستدامة من درجة مصداقية المعلومات الواردة في التقرير ويعزز سمعة المؤسسة وثقة المتعاملين معها.

على مستوى فلسطين تتمحور الأسئلة حول فحص مدى التزام الحكومة ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني بتحقيق أهداف الاستدامة متمثلة بوضع التشريعات والسياسات والإجراءات، وتعزيز الممارسات التي ترسخ ثقافة الاستدامة.

لقد بات استغلال الاحتلال الإسرائيلي لمصادر فلسطين، المحدودة أصلاً، مهدداً لبقاء الفلسطينيين على أرضهم، فاستلزم اهتماماً مضاعفاً.

أين نحن من ذلك وكيف نخطو للأمام ؟ هي بعض من الأسئلة التي سأحاول الإجابة عنها في سلسلة مقالاتي القادمة. 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.