الثامنة.. والأولى في جريدة القدس
مقالات

الثامنة.. والأولى في جريدة القدس

أبدأ يومي عادة بقراءة الصحف الفلسطينية، وما يتيسر من الصحف ‏العربية والإسرائيلية والأجنبية، ومنذ مدة لا اعرف متى كنت ابدأ ‏قراءة جريدة القدس من الصفحة الثامنة التي عنوانها “القدس قبل ‏عشرين عاما” وتملكتني هواية المقارنة بين ما كان منشورا في ذلك ‏الزمن وما هو منشور اليوم، ولم أجد صعوبة في اكتشاف المشترك ‏والمختلف… المشترك هو عناوين الاخبار والاحداث، فما كتب قبل ‏عشرين سنة هو ذاته ما يكتب الان… استيطان ومداهمات ‏واجتياحات واعتقالات، مع تحذيرات صارت عابرة للزمن كالقول ‏ان ما تفعله إسرائيل يقوض عملية السلام، ويخالف الاتفاقات ‏المبرمة، وعلى أمريكا وأوروبا والمجتمع الدولي التدخل الفوري ‏للإنقاذ.‏
هذا هو المشترك والذي يزيد عن سبعين بالمائة من العناوين وما ‏تحتها، اما المختلف فهم الوجوه، أكثرهم حضورا كان ياسر عرفات ‏وزواره الذين كانوا جميعا ذوي شأن في بلدانهم والعالم، إضافة الى ‏عناوين عن مبادرات لتحريك العملية السياسية ومنع ما بني عليها ‏من الانهيار.‏
بين الأولى والثامنة نقرأ تأريخا تفصيليا واقعيا وعمليا لمسيرة بدأت ‏قوية واعدة كنهر متدفق من آمال ممكنة التحقق وما تجسده الأولى ‏من وقائع الراهن، فيبدو كما لو أن نهر التوقعات والمال تجمد دون ‏حراك او انه على عكس قوانين الطبيعة صار يجري الى العكس، ‏ولأن العالم دأب على تقويم عام مضى وتوقع ما سيحدث في العام ‏الذي سيأتي، فقد تولى هذه العادة الشيقة والجاذبة للاهتمام محللون ‏سياسيون ومثقفون وأصحاب رأي مقروء ومرئي ومسموع وحتى ‏خبراء فلك وتنجيم، فإن تحقق بعض ما يتوقعون فينسبونه للبراعة ‏وان لم يتحقق شيء مما توقعوا او تحقق عكسه غالبا فباب الهرب ‏المتاح دائما هو القول ان العالم مليء بالمفاجآت.‏
عندنا كل شيء مقروء، والمبتدأ يفضي الى الخبر، وهذا تميز عن ‏كل ما يجري في العالم المحيط واستثني من يشبهنا من العرب، ‏فكيف ينبغي ان تُقرأ احداث العام الماضي قبل ان نذهب الى ‏استنتاج ما سيجري في العام القادم.‏
العام الماضي كان حلقة من سلسلة الفشل المتمادي لعملية السلام ‏والذي واكبه فشل طويل العمر لانهاء الانقسام والذي تزامن مع ‏ربيع عربي القى بالقضية المركزية الى هامش الاهتمامات، والذي ‏انتج عزوفا دوليا عن تقديم مبادرات فعالة ولو تحت عنوان انقاذ ما ‏يمكن إنقاذه، ولأن الكثير من مقومات حياتنا في زمن السلام، بني ‏على جديده ووعوده، فقد دخلنا بعد الانهيار الى ممر ضيق تصعب ‏رؤية نهايته وهذا انتج التحول الكبير الذي اعترى مواقف وسياسات ‏حماة العملية وسدنة مشروعها من الأمريكيين والاوربيين، الذين ‏عدلوا عن سياساتهم القديمة القائمة على مساعدة الفلسطينيين على ‏مواصلة الحياة كشركاء في هدف سياسي لهم فيه دولة، الى ‏مساعدتهم على مجرد البقاء على قيد الحياة مع انقساماتهم ‏واخفاقاتهم.‏
العام الذي مضى كان عام تهريب الإنجازات بامتياز فيه ذهب ‏ترمب صاحب مبادرة التصفية النهائية وذهب معه شريكه بنيامين ‏نتنياهو صاحب كل ما يؤذي الفلسطينيين حاضرا ومستقبلا، ‏وظهرت وحدة نموذجية نادرة للشعب الفلسطيني في كل مكان بما ‏في ذلك داخل إسرائيل، واندلعت تظاهرات ضخمة في كل عواصم ‏العالم كنا قد اشتقنا اليها بعد انقطاع طويل، كانت انتفاضة فلسطينية ‏وعالمية بلا حجارة، الا انها كانت انتفاضة وعي ويقظة ضمير ‏شملت العالم كله، كان ما حدث أرضية اكثر من كافية لانتقال ‏الفلسطيني من حالة الجمود الى حالة الفعل والمبادرة، غير ان الذي ‏جرى هو عكس ذلك تماما فعاد اللهاث وراء تهدئة توفر بعض ‏المزايا ووراء سراب يسمى انفاذ العملية السياسية، ووراء ‏مساعدات مالية اما يأتي بعضها في حقيبة او يأتي البعض الاخر ‏من المقاصة، اما الطبقة السياسية الفلسطينية التي تنكر كل هذا او ‏بالأصح تنكر صلتها او مسؤوليتها عنه، فما تزال تلعب خارج ‏الملعب جريا وراء السهولة.‏
ما لا يؤدي الى اليأس هو القوة الفعلية الكامنة في قلب وحياة ‏المجتمع الفلسطيني، الذي يواصل الحياة رغم كل صعوباتها، يبني ‏ويتقدم دون الاضطرار الى تقديم تنازلات عن الحقوق واذا كانت ‏الطبقة السياسية لا تخيف إسرائيل فإن الذي يخيفها حقا هو دينامية ‏المجتمع الفلسطيني، العصية على الانتهاء او الترويض، يغنيها ‏مبادرات متطوعين شبان وشابات في عمر الزهور، لا صلة لهم ‏بأي من الدكاكين المعروفة بل كل ما يحركهم هو ما يعتقدون ‏ويؤمنون، وهذا النوع من الناس الذي حمى القضية منذ بداياتها ‏وسيحميها الى ما لا نهاية يزيد ولا ينقص.‏

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.