فيلق الاعلام… الحضور القوي والرحيل الهادئ
هذا الفيلق انطلق في ذات اللحظة التي انطلقت فيها الثورة الفلسطينية التي يحتفل الان بذكراها السابعة والخمسين، ليشتبك في حرب الحبر والورق والقلم والاثير.
لم ينشد أي من رجاله ونسائه نجاة شخصية، ولم يتخلف عن ساحة قتال. كان ينتقل بين اذاعات كانت تبث صوت المذيع والنشيد مع أصوات القذائف، كما لو انها موسيقى تصويرية تنقل بدقة ما يجري على الأرض الى كل بيت، والى الأقبية غير المحصنة التي كانت تنتج على ضوء شمعة جريدة فتح اليومية، ثم فلسطين الثورة المجلة المركزية، ثم إذاعة درعا البدائية فنيا والتي كانت مؤشرات الراديو تتثبت على رقمها حيثما يصل بثها، ثم الى اعلام ملحمة بيروت الكبرى التي خرج منها الفيلق مثخنا بالجراح والموت.
كان فيلق اعلام الثورة مقاتلا على كل الجبهات، وما من موقعة حدثت الا وكان رجال ونساء هذا الفيلق في طليعة المحاربين، بندقيتهم محشوة بالرصاص، في قبضتهم اليمنى والقلم والكاميرا والميكروفون في قبضتهم اليسرى، وفي كل موقع من مواقع المعارك وما اكثرها واشرسها، كان من بين الشهداء والجرحى واحد او واحدة او أكثر من هذا الفيلق.
لم يكن فيه فرق بين رئيس ومرؤوس، ولم يكن هنالك امان لأحد أكثر من امان رفيقه، كان الامن والخطر يُتقاسمان بعدالة، ومثلما كانت معارك الثورة تجري في المدى الممتد حيثما وجدت بنادقها، كان رجال ونساء فيلق الاعلام يحاربون في الفضاء المكتظ بالخطر، وما من معركة وقعت الا وكان جنود هذا الفيلق في طليعتها، فإن أصيبوا او قضوا فهذا قدرهم وهذا خيارهم وان نجو فبمحض الصدفة ليس الا.
لم يكن اعلام الثورة تقليديا ولم يكن فيه اختصاص كالمعمول به في أي اعلام عادي، كان رجل وامرأة اعلام الثورة مؤهلان للعمل في كل المجالات، كان سائقا لسيارة الإذاعة وهو رئيسها وكان احتياطيا لمذيع او محرر غاب بفعل مرض او موت، وكان حارسا على مقره حين كان المقاتلون ذاهبين الى معركة بعيدة عن المكان، كانوا بفعل عملهم الخطر والمجيد يعيشون حياة عمل صاخبة ومن اجل اتقان ما كانوا يعملون كان لابد ان يموتوا واقفين.
سامي سرحان..
هو آخر الذين غابوا حتى الان بعد ان ملئوا عقودا من حياتهم بصخب العمل الذي لا يهدأ، فهو كاتب بالقلم وقائد اداري ناجح في اهم المؤسسات، في الإذاعة حين كانت تحت سقف الخطر في حلها وترحالها، ووكالة الانباء وجريدة فتح ومجلة فلسطين الثورة، وأخيرا صحيفة الحدث، التي كانت آخر مهامه فيها رئيسا لمجلس ادارتها وكاتبا للمقال السياسي الرئيسي فيها، وبفارق زمني يبدو كطرفة عين، كان رحيله مترافقا مع رحيل زملائه كما لو ان جائحة المت بهم، قبل ساعات من رحيل سامي رحل خالد أبو خالد الصاخب شعرا ونثرا وقتالا وحياة، وقبل ان يقام سرادق العزاء فيه لحقه سامي، كان رحيلا هادئا كما لو ان الراحلين خلدا الى نوم عميق بعد عناء رحلة طويلة قاوما فيها التعب الجسدي بيقظة روحية لم تعرف السكون.
تحضرني أسماء كثيرة أسست فيلق الاعلام الفلسطيني، اعلام الثورة. غير انني لم اذكر اسم واحد منهم خشية ان انسى رفيق احق ان يذكر، وحسب اخر راحلين حتى الان .. خالد وسامي، ان تمثل بغيابهم غياب رفاقهم جميعا مثلما نتمثل سيرة حياة كل واحد منهم التي كانت بين حدي الخطر والخطر.
للقدر تصاريف يعجز حتى الخيال عن تصورها، كأن ساعة توقيت توقفت عقاربها عن الدوران، حين مات سامي بهدوء وقبله خالد. ولأول مرة لم يشهد الراحلان ولم يشاركا في احتفالهم الاثير بانطلاقة ثورتهم.