الحق في الصحة
لا يرى الناس في وزارة الصحة إلا ملفا واحدا اسمه (التحويلات)، وظل هذا الملف يتضخم في الوعي الشعبي وكأنه الملاذ الأول والأخير ولا يوجد ملفات غيره، بحيث لا يقيم المواطن وزنا في الغالب لأي تطور يحدث في القطاع الصحي من بنية تحتية وتجهيزات واستقطاب كفاءات (معظمهم يطلبهم ذات المواطن للمستشفيات الخاصة لعلاجه)، ولا يرى أهمية لما يراه حوله من تبرعات ومسؤولية اجتماعية من الناس تجاه المستشفيات والعيادات الحكومية ودوائر الصحة.
المحزن أن الشفافية في القطاع الصحي ارتبطت فقط بالتحويلات وإجراءاتها، وبات تقييم أي وزير صحة غادر أو أتى مرتبطا بالتحويلات ورؤية الناس له من نظارة التحويلات، فهو مضطر أن يدعي بطولة حتى لو شكلية في هذا الملف بدايتها تقرير في مجلس الوزراء (لقد استطعنا تقليص التحويلات بشكل كامل إلى مبلغ زهيد) وتثور ثائرة الباحثين والمعقبين بأن كل هذه الأموال لو أنفقت على تطوير المستشفيات والعيادات ويتناغم الوزير مع هذه النغمة ويعتقد أن العمل في وزارة الصحة بدأ من عنده وسينتهي عنده.
عمليا، حسب الخبراء الصحيين في كل العالم، يوجد شراء خدمة من خارج القطاع الصحي في البلد، والأمثلة حاضرة عدد الذين يحولون للعلاج من دولهم إلى الأردن مثلا. إذاً، هذا ليس اختراعا فلسطينيا، ولا تنفق كل الملايين على التحويلات إلى المستشفيات الإسرائيلية وهذا رقم يجب أن ندقق فيه، هناك وزير يتلقى تعليمات صارمة بالتحويل فقط إلى مستشفى معين وعليه إدارة الظهر للمستشفيات الخاصة الأخرى، ووزير لا يتلقى ذات التعليمات.
السؤال المحوري الذي يخرجنا من الحديث والتعليق لهدف التعليق فقط: أين نحن من الحق في الصحة؟ وحسب منظمة الصحة العالمية فإن الحق في الصحة ليس فقط أن يكون المواطن موفور الصحة على أهميته وأساسيته رغم أن الملايين يعيشون الفقر في العالم، إلا أنه يشمل أن الحكومات يجب أن تهيئ الظروف التي يمكن فيها لكل فرد أن يكون موفور الصحة بقدر الإمكان، وتتراوح هذه الظروف بين ضمان توفير الخدمات الصحية وظروف العمل الصحية والمأمونة والإسكان الملائم والأطعمة المغذية.
وللأسف، فلسطينيا، على مستوى الحكومة والمؤسسات العاملة في القطاع الصحي ونقابة الأطباء والصيادلة والساسة (الذين يركضون رواء التحويلات لإرضاء قواعدهم) لا نرى إلا التحويلات، والدليل أن الحق في السكن كشرط من شروط الصحة غائب، ونرى العمال الذين يعملون في ظروف غير آمنة ودون الحد الأدنى للأجور، والطعام غير الصحي حدث ولا حرج حتى أن سلامة الأغذية باتت خارج التغطية، وفوق هذا وذاك لا نقيم وزنا للمساهمات المجتمعية في تطوير القطاع الصحي، فالمواطن لم يفرح عندما رأى تطورا في قسم الطوارئ في مجمع فلسطين الطبي في رام الله، ولا التطور في مستشفى رفيديا، ولا «عالية» الحكومي، رغم أن هذه جميعها تم تطويرها أمام ناظر المجتمع المحلي.
من زمان «الطوشة» قائمة على القطاع الصحي وليست على تطويره والمشاركة الفعلية في تقييمه والتخطيط والتمويل والتنفيذ، سواء «طوشة» من يمتلك الإسعاف والطوارئ منذ 1994 هل هي حق وزارة الصحة أم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، و»الطوشة» من يخطط للقطاع الصحي الحكومة وبالشراكة مع مؤسسات المجتمع الأهلي الصحية أم نترك الأمر لفتاوى مواقع التواصل الاجتماعي بحيث ترى في كل حارة مشفى مثلا، ما هو دور المستشفيات الخاصة والأهلية والخيرية، وهذا محور مهم، أين موقع مستشفيات القدس.
فتح ملف القطاع الصحي مرة أخرى، شئتم أم أبيتم، سواء أردتم بالأمر الإعلان عن تنقلات روتينية داخل وزارة الصحة فذهبتم تجاه (ملف التحويلات) وبات من حق كل مواطن أن يفسر كما شاء، وظننتم أن الملف سيغلق وتمضي الأمور، لكنكم أخطأتم التقييم والتقدير، اليوم، من حقنا أن نعرف لماذا لا تتوفر الأدوية في وزارة الصحة، وهل يجب على المواطن أن يبتاع أدويته وهو يحمل التأمين الصحي ساري المفعول؟، ولماذا يضطر المواطن لحمل تأمين صحي حكومي لا يلبي أدنى الاحتياجات له بمعنى يجب أن يذهب إلى الطبيب في عيادته الخاصة، ويذهب ليطلب من الطبيب أن يجري له تدخلا علاجيا في مستشفى خاص اسرع من المستشفى الحكومي والتأمين الصحي.
في غياب المجلس التشريعي، وفي غياب أي جهة تراقب وتحاسب، وضياع دور المجتمع المدني، وغياب دور وسائل الإعلام الاستقصائي بات ملحا أن نرفع الصوت عاليا في جمعية حماية المستهلك الفلسطيني ومع الشركاء المهتمين لتثبيت معايير وأسس الحق في الصحة، ومراجعة التأمين الصحي وسبل تحويله إلى إلزامي، والتزام الأطباء في مؤسسات القطاع الصحي الحكومي، وتحديد موقع القطاع الصحي الخاص والأهلي في خارطة تطوير القطاع الصحي الفلسطيني.
لا يوجد، اليوم، متسع من الوقت لإثارة النقاش حول قضايا طالما ناقشناها وهناك العديد من الوثائق حولها بل يجب أن ننفض الغبار عنها ونترك بصمة في القطاع الصحي لأن النظريات والأسس موجودة ولكننا بحاجة لمن يفعلها، ولا داعي للتسرع بقرارات إدارية قد تبدو روتينية ولكن وراءها ما وراءها وقد يكون المستهدفون فيها لا يوجد خلفهم عشيرة ولا عزوة ولا مسؤول سياسي يربطه به نسب أو صداقة أو جيرة وقد تكون فقط شهادة مشفوعة بالقسم أنه مواطن محترم، ولا تظنوا الظنون أن الضعيف هو من لا يمتلك عزوة ينزل بها إلى الشارع ليغلق حارة أو ميدانا فقد يكون هذا عنصر قوة لأنه يعلم انه مهني ومحترم وعلى ثقة انه لن يخرج من المعادلة بل سيظل في صميمها.