أزمة النقب والإجابات المطلوبة
تكشف أزمة النقب مرة أخرى عن طبيعة المشروع الصهيوني القائم على سرقة أرض الفلسطينيين ونفيهم خارج المكان. وهي طبيعة لم تغب يوماً، بل كانت دائماً تتأكد مع مرور الوقت. والدولة التي قامت على أنقاض شعب آخر وبنت مدنها وقراها على أنقاض بيوته، والمستوطنون الذين قتلوا سكان البيت من أجل أن يعيشوا هم في بيت لم يبنوه، والجنرال الذي أخذ يحرّف أسماء القرى العربية لعلّه يجد لها شبيهاً في قاموسه المرتكز أساساً على سطوة لغوية، كل هؤلاء لم ينسوا يوماً أن المهمة يجب أن تتواصل، وأن البلدوزرات يجب أن تواصل اقتلاع الأشجار وهدم البيوت، وأن الحاجة للتخلص من المزيد من سكان البلاد يجب ألا تنتهي. وحتى لو تم فعلاً الانتهاء من كل ذلك، فإن الهاجس والخوف من الظهور المفاجئ للفلسطيني من تحت الأنقاض يجب أن يظل قائماً؛ لأن اللصوص يخافون حتى من أشباح من قتلوهم ليسرقوهم.
والحقيقة أن المشروع الصهيوني قام على فكرة الإزاحة والإحلال، وهي فكرة ظلت تأخذ أشكالاً مختلفة وبوتائر متفاوتة. الأساس أن الفلسطيني، وكلّ الأرض التي كان عليها الفلسطينيون، يجب أن يتم استبدالها باليهود. ليس هذا فحسب، بل يجب سرقة حتى التراث المادي وغير المادي الذي يعود للفلسطينيين من أجل بناء ذاكرة وهمية عن علاقة مفترضة مع المكان.
إزاء ذلك، ثمة أسئلة واجبة تتعلق تحديداً بمشروع تهويد النقب، وتدمير القرى والتجمعات العربية، والتفرقة العنصرية التي تتم بحق البدو الفلسطينيين هناك. المشاهد هي ذات المشاهد التي تتكرر في الضفة الغربية كل يوم خلال سرقة الأراضي من القرى الفلسطينية لصالح المستوطنات هناك، وهي نفس المشاهد التي تكررت خلال مجازر النكبة حين تمّت إبادة قرى كاملة من أجل إجبار أهلها على تركها، وتم قتل الأطفال والشيوخ من الرجال والنساء، وتم حرق البيوت بساكنيها، المشاهد ذاتها، ليس لأن التاريخ يعيد نفسه، بل لأن المجرم ما زال طليقاً يمارس هوايته أمام صمت ورضا العالم.
ربما أول ما يمكن أن يتبادر إلى أذهاننا هو حقيقة خدمة الشبان البدو في جيش الاحتلال. هذه جريمة وطنية بالطبع، وهي خدمة تشكل طعنة للكل الوطني. ليس من باب العتاب ولكن بعض العتاب واجب. لماذا لم تقم مرجعيات البدو في النقب بمراجعة هذه الخدمة غير الوطنية حين يقف الشاب العربي البدوي ليطلق النار على الطفل الفلسطيني في غزة الذي ربما يكون من قرابته أو من قبيلته. ببساطة لا يمكن تبرير الأمر ولا يمكن الاسترشاد بأي شيء من أجل أن يبدو هذا مقبولاً. التضحيات الجسام التي قدمتها البادية الفلسطينية في الدفاع عن البلاد خلال النكبة، وبعد ذلك ما سطره الفلسطينيون البدو في الثورات الفلسطينية والانتفاضات، لا يمكن أن تضيع أمام خدمة هؤلاء الشبان في حرس الحدود وفي الفرق المختلفة. ما أقوله: إن هذا الأمر كان يجب مراجعته من قبل، وربما أن ما يحدث يستوجب مراجعة أكبر هذا الوقت، خاصة أنه يعكس حقيقة واحدة تعرفها دولة الاحتلال تقول: مهما خدمتني ومهما طعنت شعبك ومهما فعلت لأجلي، فإنني لا أنظر إليك أكثر من أنك شعب أحتله وأريد المزيد من أرضه، فأنت مهما فعلت لن تحظى مني بغير تلك المعاملة. أليس هذا تحديداً ما تقوله دولة الاحتلال؟
أظن أن مرجعيات الوسط العربي في الداخل بحاجة لحوار عميق مع قيادات النقب من أجل الوصول إلى تصورات حول ذلك. تخيلوا كيف استخدمت دولة الاحتلال الخيمة البدوية والنساء الفلسطينيات في النقب في محاولة تسويق الثوب الفلسطيني على أنه تراث خاص بها. لم يكن الأمر مقبولاً؛ فسرقة تراث شعب يجب ألا تتم بوساطة جزء منه. وبقدر كونه غير مقبول، كان يجب على قيادات الوسط البدوي أن تقف بحدة أمام ذلك؛ فالثوب الفلسطيني الذي تلبسه المرأة البدوية في النقب ليس خاصاً بها، بل هو ثوب كل النساء الفلسطينيات اللاتي أجبرن على ترك بيوتهن خلال النكبة، وهو شارة من شارات الهوية الوطنية.
السؤال الآخر الذي تثيره أحداث النقب يتعلق بموقف أعضاء الائتلاف الحكومي العرب، وأقصد القائمة الموحدة. لم يغب هذا السؤال عن بال كل الطيف السياسي في الداخل فور بدء عملية الهدم في النقب. كيف يمكن أن تكون مشاركاً في حكومة تستهدف جزءاً من ناخبيك؟ السؤال الأكثر عمقاً يعيد النقاش حول فكرة المشاركة في ائتلاف حكومي مع الأحزاب الصهيونية. هناك بعض الأفكار التي تستوجب التوقف عند ما فعلته «الموحدة» تتعلق بمكانة العرب في النظام السياسي في دولة الاحتلال. هل يمكن لهم أن يؤثروا وهم خارج الحكومات دائماً؟ وكيف يمكن أن يتحولوا من مجرد أعضاء برلمان، طالما قبلوا أن يكونوا كذلك، إلى فاعلين في النظام السياسي؟
اجتهاد شكّل مخاطرة، لكن نتائجه باتت واضحة كما يمكن الاستدلال. تقول أبسط تلك النتائج: إن وجودك وعدمه واحد. وعليه فعلى الأقل ألا تتم تلك الجرائم بوجودك.
وبشكل عام، إن ما يجري يتطلب مراجعة على أكثر من صعيد؛ لأن شرذمة الحالة الفلسطينية في الداخل لا تخدم إلا مصلحة المشروع الذي سيواصل تغريب أهل البلاد وسرقة أرضهم وطردهم منها. إن ما يجري يقول: إن النكبة مستمرة ولم تنته ولم تتوقف، وإن فهمنا لها يجب ألا يتوقف عند ما جرى، بل عند ما يجري وسيجري من أجل أن نتمكن من الصمود في وجه العواصف.