النهاية التراجيدية للطفل سليم
لن يعود سليم إلى مقعده في المدرسة، ولن يستكمل امتحاناته التي بدأها بتقدير ممتاز، وكان يوصي أباه بمراجعة المدرسة لاستكمالها بعد عودته من العلاج. وسيبقى فريق «التايكواندو» يذكر اللاعب المميز سليم الحاصل على عدة ميداليات عرفانا بتفوقه، ويذكر مدربه الواعد سليم الذي دخل عالم التدريب رغم صغر سنه. لم تكن «اللوكيما» سرطان الدم، الجهة الوحيدة التي خذلت سليم وحرمته من متابعة أحلامه في التحصيل العلمي ومتعة التفوق الرياضي، هناك شركاء في الخذلان ممن جعلوا النهاية موجعة ومفجعة وحزينة بموت سليم قبل موته، لا يوجد ما هو أسوأ من إحساس طفل يكابد هول السرطان، بعجز ولامبالاة جهاز طبي عن وضعه في شرط إنساني، أقله الاهتمام ومحاولة الإنقاذ والتعاطف والاحتضان والحب وتوفير الأمان والحق في العلاج، وتلك هي رسالة الطب الإنسانية. لكن سليم أغمض عينيه وتوقف قلبه عن الخفقان على وقع الامتناع والرفض والانتظار واللامبالاة والعجز والقسوة. قصة موت الطفل سليم التي دخلت كل بيت وتحولت إلى قضية رأي عام، لن تخرج منه قبل تحديد الاختلالات والمسؤوليات، وقبل الخروج العملي من إسار البيروقراطية الإدارية المتناقضة مع حقوق المواطن الإنسانية. وهذا يعني التحقيق في عمل الجهاز الطبي بفرعيه العام والخاص، وعدم الاقتصار على مأساة الطفل سليم بإعادة الاعتبار لعائلته الصغيرة «الحق الخاص»، بل إن ما يهم أيضا هو إعادة الاعتبار لفلسطين عائلته الكبيرة أو «الحق العام» الذي لا يقل أهمية، ويشكل ضمانة لعدم تكرار مأساة سليم. لذا فإن تطوير لجنة التحقيق واعتمادها على شخصيات مستقلة يشكل مقياسا لجدية التعامل مع حدث كبير بهذا المستوى. ولا شك في أن النتيجة ستتقرر إيجابا بمشاركة ومتابعة ومراقبة جهات اختصاص وإعلام وإعلاميين مدافعين عن حقوق المواطنين ورأي عام داعم.
رحلة عذاب وموت سليم، بدأ فصلها الأول بتلكؤ سلطات الاحتلال الإسرائيلي في منح سليم وعمه المرافق تصريح الانتقال من قطاع غزة إلى مستشفيات الضفة، حين تأخرت سلطات الاحتلال شهرا كاملا، كان التأخير الإسرائيلي بعنوان «تحت الفحص» والمقصود هنا الفحص الأمني لطفل بعمر 16 عاما مصاب بالسرطان! والأنكى من ذلك أن سلطات الاحتلال طلبت من سليم وعمه العودة إلى قطاع غزة والتقدم بطلب تصريح جديد للدخول إلى مستشفى إسرائيلي أتم إجراءات قبوله للعلاج! حدث ذلك في اليوم الذي كان فيه سليم على وشك الموت وقد دخل الفصل الأخير من الموت بتوقيع الأمن الإسرائيلي.
الفصل الثاني في رحلة عذاب الطفل سليم، كانت على أبواب مستشفى النجاح في مدينة نابلس. عندما رفضت إدارة المستشفى قبول سليم الذي سبق وأن أعطي ثلاثة مواعيد لدخول المستشفى وحصل على التصريح الإسرائيلي بناء على أوراق قبوله من إدارة مستشفى النجاح. لدى المستشفى تبرير مفاده انه ابلغ كل الجهات بتوقفه عن استقبال حالات جديدة بسبب عدم توفر العلاج الناجم عن عدم دفع السلطة للمبالغ المستحقة للمستشفى. لكن حالة سليم قبلت قبل قرار المستشفى بأسابيع، ومن المنطقي ألا تندرج في القائمة الجديدة. ولنفترض أن المستشفى فوجئ بحالة سليم القادم من غزة دون موافقة وتنسيق سابقين، فإن قواعد وأخلاقيات المهنة الإنسانية تستدعي استقباله وعرضه للفحص ومفاوضة وزارة الصحة على احتياجات قبوله كحالة طارئة، وإذا لم تستجب الوزارة فإن معظم الناس سيؤيد المستشفى ويدعمه. وإذا افترضنا أن المستشفى قبل كل الحالات المحولة إليه من غزة وعددها 8 وأقرن قبولها بتأمين الأدوية، اعتقد أن المستشفى سيفوز بثقة المواطنين في كل الوطن وستخسر وزارة الصحة والحكومة إذا لم تلب الاحتياجات الطارئة. ما كان ينبغي رفض قبول سليم لأن حالته تحتمل التدهور بفعل الاكتشاف المتأخر للمرض وبفعل التأخير لمدة شهر، ولأنه آت من منطقة منكوبة بالحصار الخانق وبحروب الدمار الإسرائيلية.
وعندما لا تتوفر الحساسيات بالحالة الطارئة، يصبح الإنسان والإنسان المنكوب القادم من غزة رقما بلا قيمة إنسانية ومعنوية.
الفصل الثالث في رحلة عذاب وموت الطفل سليم كانت على أبواب مجمع فلسطين الطبي ووزارة الصحة في رام الله. يفترض أن يكون للوزارة سلطة مهنية وأدبية على كافة المرافق الصحية بحسب الوصف الوظيفي للوزارة التي يتم التعامل معها من قبل منظمة الصحة العالمية ووزارات الصحة في العالم كطرف مسؤول عن الحالة الصحية للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. موقف مستشفيات القطاع الخاص وموقف المستشفى المركزي في رام الله يعكسان ضعف موقف الوزارة التي بدت لا حول ولا قوة لها، ولا تستطيع تأمين سرير واحد لطفل واحد مريض بالسرطان قادم من غزة وفي حالة خطرة، لا تستطيع تأمينه في مستشفيات القطاعين العام والخاص! إن مأساة موت الطفل سليم تطرح النظام الصحي بكامله على بساط البحث، بوصفه المسؤول الأول عن الاختلالات، وعن أزمة ثقة أصبحت متفاقمة ولصيقة به. تطرح تحديدا آلية اتخاذ القرار في التحويلات الطبية، وغلبة نظام الواسطة والمحسوبية للمتنفذين على الحقوق الصحية التي من المفترض أن تكون متكافئة بين المواطنين، وتطرح الخصخصة المتسارعة للنظام الصحي على حساب القطاع العام الصحي، وعلى حساب السواد الأعظم من المواطنين. طرح النظام الصحي على بساط البحث يبدأ بمحاسبة المسؤولين عن مأساة الطفل سليم، وجماعات المصالح التي ساهمت في نشر الفساد داخل هذا القطاع الحيوي والحساس.
الفصل الرابع في رحلة عذاب وموت الطفل سليم كانت مسؤولية سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، التي يبدو أنها غير ذي صلة بالمأساة، وواقع الحال أنها تتحمل قسطا وافرا من المسؤولية. ذلك أن أمن المواطن وصحته وأمنه الغذائي وحاجاته الضرورية في العمل والسكن والضمان الاجتماعي والتعليم والحريات العامة والخاصة ليست مطروحة على أجندة سلطة «حماس» في قطاع غزة. لا يهم «حماس» وجود علاج للسرطان في قطاع غزة ولا تحديث الدفاع المدني الذي لم يطور أدواته ووسائله منذ عقدين. ما يهم هذه السلطة هو الحفاظ على الأوضاع القائمة التي تعادل الحفاظ على سلطتها إلى ما لا نهاية وليواجه المواطنون قدرهم المأساوي بأنفسهم. ترفض «حماس» المساءلة حول علاقتها بمواطنيها وحول المآسي التي يعيشونها فهي تارة معارضة تحيل كل المساوئ إلى السلطة، وتارة، سلطة تستأثر بالمغانم مستخدمة سحر المقاومة الذي لا يضاهيه سحر.