الأرض بتتكلّم عربي
هي قصة الأرض والصراع عليها منذ اليوم الأول لتنفيذ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
خلال أكثر من ثلاثة وسبعين عاماً منذ إقامة دولة إسرائيل، لم يهدأ هذا الصراع، ومن غير المحتمل أن يهدأ طالما يوجد على هذه الأرض شعب يتمسك بحقه التاريخي فيها، ومستعد كل الوقت للمواجهة.
أعلنتها الحركة الصهيونية من البداية، فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
لو كانت الأرض بلا شعب فأين ومن أين جاء أكثر من أربعة عشر مليون فلسطيني يعيش أكثر من نصفهم على أرض فلسطين التاريخية؟ لا يثير أصحاب المشروع الصهيوني سؤال من هو ومن أين جاء الشعب الفلسطيني لكن إرادة المشروع الاستعماري الاستيطاني التوسعي، تريد أن تنكر من الأساس وجود هذا الشعب وعلى هذه الأرض تحديداً.
النقب يهبّ من جديد لمقاومة ما تدّعي الحكومة الإسرائيلية أنها مشاريع تطويرية، في منطقة ذات طبيعة استراتيجية، تستهدف جذب المزيد من المستوطنين.
عمليات التطوير في النقب، لا تتم إلا على حساب الأراضي التي يملكها الفلسطينيون، سواء كانت طرقا، أو سككا حديدية، أو منشآت ومعسكرات.
في النقب يعيش نحو ثلاثمائة ألف فلسطيني على مساحة لم يتبق مما يمتلكونه منها سوى 5%، بينما يشكلون نسبة 32% من السكان.
يقول الكاتب الإسرائيلي إيال زيسر، في بداية الخمسينيات كان عدد السكان البدو في النقب نحو عشرة آلاف، أما اليوم وبعد سبعين عاماً فإن عددهم يبلغ نحو ثلاثمائة ألف يعيشون في ضائقة اقتصادية واجتماعية ويتعرضون للتجهيل والتهميش.
أما الكاتبة والناشطة الاجتماعية آفي دبوش فتشير إلى طبيعة العلاقة التصادمية بين الحكومة ومخططاتها وبين الفلسطينيين وتقول: عندما يطرد المجتمع البدوي من مكان إلى مكان ويفتقد السكن والتخطيط التطويري والحقوق المتساوية في الأرض، فإننا نتعاطى مع هؤلاء الإسرائيليين كغزاة ومسيطرين.
هبّة النقب مختلفة هذه المرّة، فهي تتخذ طابعاً ودوافعَ قومية، بعد أن أدرك سكانه الفلسطينيون أنهم يتعرضون لحملة شرسة تستهدف انتزاع أرضهم وملكياتهم، وتهجيرهم من قراهم التي لم تحظ باعتراف الدولة.
نتذكر قبل ذلك كم مرّة قامت السلطات الإسرائيلية، بهدم قرية العراقيب، وكم مرّة عاود أصحابها الفلسطينيون بناءها والتصدي للقوات الحكومية.
هذه المرّة يخرج الناس إلى المواجهة المباشرة مع قوات الشرطة، انطلاقاً من الشعور بأن الأمر يتعلق بوجودهم وحياتهم وكرامتهم، ويعلنون أنهم لن يستسلموا للجرافات، بالرغم من تعرض أكثر من مئتي إنسان للاعتقال والتنكيل والضرب، أليس هذا هو المخطط ذاته الذي تقوم الحكومة الإسرائيلية بتنفيذه بحق الفلسطينيين وأرضهم وممتلكاتهم في المدن المختلطة وفي الشمال والمثلث.
هل نتذكر المواجهات التي وقعت في يافا قبل نحو عام، رفضاً لمخططات الدولة التي استهدفت نزع ملكياتهم وأراضيهم التي توارثوها عن الآباء والأجداد؟ ثم أليس ذلك تأكيداً بالممارسة، على أن ما يجري في النقب، ويافا واللد والرملة، ومدن وقرى شمال فلسطين هو تنفيذ لمخططات إجلائية استيطانية تشمل الضفة الغربية والقدس بشهادة ما هو موجود على الأرض، وما يجري عليها يومياً.
فلسطين التاريخية، تتعرض لهذا المخطط البشع، الذي يدفع المواجهة والصراع على كل الأرض، وكل الحقوق التاريخية أم أن علينا أن نذكّر بما يتعرض له حي الشيخ جرّاح، كتعبير عن سياسة التطهير العرقي، والاستيلاء على الأرض والممتلكات؟
تتساءل الدكتورة غانية ملحيس بشأن إمكانية التحام هبّات الشعب الفلسطيني المتزامنة في النقب والشيخ جرّاح وباب العامود وسلوان وسلواد وسيلة الحارثية والخليل ويطا وجنين وبرقة وبيتا والأغوار ونابلس، لتفجر انتفاضة شاملة في كامل أرض فلسطين التاريخية ضد المستعمرة الصهيونية ونظامها المأزوم.
سؤال الدكتورة ملحيس مُحق تماماً وهو لا ينتمي إلى عالم الأحلام أو الدعاء. إذ يكفي أن نتذكر يوم الأرض، الذي يُحييه الشعب الفلسطيني بأسره في الثلاثين من آذار كل عام، وما هي الأسباب التي أدّت إلى اندلاع تلك الانتفاضة، التي قدم خلالها الفلسطينيون ثلاثة عشر شهيداً، دفاعاً عن الأرض.
مع تسارع تنفيذ المخططات التطهيرية التي تقودها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ومع المزيد من التدهور والانحطاط نحو نظام "الأبرتهايد" والتمييز العنصري، والإنكار والعمل على تجريف الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في الداخل، أو في الأراضي المحتلة العام 1967، فإن أصحاب المخطط يدفعون الصراع بقوة ومنهاجية نحو انتفاضة فلسطينية شاملة.
حين يتعلق الأمر بالوجود والهوية والكرامة والتاريخ فإن الشعب الفلسطيني سيخرج عن بكرة أبيه في كل قرية ومدينة ليرغم المحتل على التراجع.
فشلت مخططاتهم في الجليل والمثلث وفي الشيخ جرّاح والخان الأحمر، وفشلت في بيتا، والعراقيب وستفشل هذه المرة في النقب أيضاً.
يُعبّر رئيس مجلس مستوطنة "غوش عتصيون" شلومو نئمان عن ثقافة واسعة ومسيطرة على المجتمع الصهيوني حين يقول رداً على محاولة الطعن في الخليل: هذه المحاولة للإضرار بدولة إسرائيل والمشروع الاستيطاني أحبطها بنجاح جنودنا، هي رسالة "للإرهابيين"، فلقد حكم عليكم بالموت والزوال، وحكم علينا بالحياة إلى الأبد على أرض الوطن.
هذه هي حقيقة المشروع الصهيوني، ولكن الشعب الفلسطيني يقدم هو الآخر، حقيقة شعب استثنائي في حيويته، وفي قدرته على المواجهة وإصراره على تحقيق الانتصار.