الغوص الإسرائيلي في «صفقة» الغواصات
بالرغم من كل المحاولات على مدى أكثر من سنتين كاملتين لاستبعاد قضية الغواصات من دائرة التحقيق، فقد «نجح» كل من غانتس ولابيد، وبعض من هم على يمينهما وعلى يسارهما باستصدار قرار بتشكيل لجنة تحقيق بهذه الصفقة.
كان نتنياهو يعرف حق المعرفة أن استبعاد التحقيق في هذه الصفقة هو أكبر الإنجازات التي حققها في قضايا تهم الفساد، وكان يدرك أن هذا الاستبعاد بالذات هو أمله الوحيد للبقاء على قيد الحياة السياسية.
ويحق لنتنياهو بالفعل أن يشعر بأهمية هذا الإنجاز، لأن الفساد هنا مختلف تماماً عن أي فساد، ولأن رائحة «الأمن القومي» تزكم الأنوف، ويستحيل بقاء الأمر في دائرة الرشاوى أو ما شابه.
لفهم خلفية الحالة التي جعلت من نتنياهو قادراً على مثل هذا «الإنجاز» نحتاج إلى بعض التوضيح والشرح الضروري.
في إسرائيل تخلّى الجزء الأكبر من اليمين عن «المسحة» الليبرالية، وتخلّى مع قدوم نتنياهو بالذات عن الكثير من الاعتبارات «الأخلاقية» للقيم الديمقراطية، وتحولت الليبرالية السياسية التي حافظت على هذا القدر أو ذاك من شكلها الخارجي أثناء حكم قادة الليكود، قبل نتنياهو إلى حالة من السيولة الأيديولوجية والسياسية، وحتى الثقافية وأصبحت تخضع بالكامل لعامل الحسابات السياسية والانتخابية. واستطاع نتنياهو أن يحول الليكود وأن يفرض عليه ما يشبه النظام الأبوي في الحقل السياسي، وهناك من يرى ـ وقد يكون على حق ـ أن نتنياهو كرس في السنوات الأخيرة شيئاً ما يشبه نظام الزبائنية، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من نهج مغاير لليبرالية السياسية، وبكل ما تعنيه أيضاً من تكريس لسلطة الفرد في المؤسسة الحزبية والسياسية، وارتباط كل مراكز السيطرة والتحكم والنفوذ في «عنقود» مؤسسات القرار بهذا الفرد بالذات.
وكما كان متوقعاً قبل التصويت على هذا التشكيل، فقد «امتنع» نفتالي بينيت عن التصويت، في حين لم يتراجع غانتس عن طرح الاقتراح للتصويت، واستبق لابيد هذا التصويت بالتأكيد على أن «صفقة الغواصات» هي مسألة غير مسبوقة، وأنها الأكثر حساسية على مسألة «الأمن القومي» على مدى كل تاريخ إسرائيل.
الآن بدأ يتبخر الأمل الذي راهن عليه نتنياهو سواء أدين في نهاية التحقيق أم لم يدن، (مع الفارق الكبير بين الحالتين)، لأن شبهة ارتباط «الرشاوى» هنا بمسائل «الأمن القومي» هي بحد ذاتها قضية «أخلاقية» من العيار الثقيل، وهي كفيلة من حيث الشكل والمبدأ بإلحاق أضرار فادحة بشخص نتنياهو وبالليكود أيضاً.
لكن لماذا «أصر» أقطاب اليمين في الائتلاف الحاكم باستثناء نفتالي بينيت ومجموعته المصغرة، وأقطاب «الوسط» و»اليسار» على تشكيل هذه اللجنة الآن، وبالرغم من كل ما يدور من أحاديث حول قرب توصل نتنياهو إلى صفقة مع النيابة العامة؟
هنا المسألة لا تتعلق بمبدأ النزاهة كما يحاول أن يوحي بعض هؤلاء من الاتجاهات الثلاثة، وإن كان المرء لا يستبعد أن يكون الدافع عند بعضهم يتعلق بمثل هذا المبدأ.
أقطاب اليمين الحاكم ينظرون إلى المستقبل القريب، فهم يعرفون أن نتنياهو يودع الحياة السياسية، ويعرفون أن الصراع على زعامة الليكود بات على الأبواب، ويعرفون أن «النواة الصلبة» في الليكود ستقاتل دفاعاً عنه حتى النفس الأخير، وسيحاولون أن ينقذوا نتنياهو بأي شكل من الأشكال، وسيحاولون أن يظل «نهجه» هو المسيطر في الحزب في كل الأحوال، وسيعملون بكل قوة من أجل أن يكون «خليفته» ـ إذا كان لا بد من الخليفة ـ من أتباع نهجه، ومن المدافعين عن «أيديولوجيته» المتطرفة من جهة و»البرغماتية» المراوغة من جهة أخرى.
أقطاب اليمين الحاكم في حال رحل نتنياهو وودع الحياة السياسية سواء لعدة سنوات، قد تصل إلى سبع، أو سواء ودع الحياة السياسية واختفى عن المسرح السياسي يعرفون أن إمكانية إعادة وحدة اليمين تصبح مطروحة وبشدة على جدول الأعمال، وهم بالتالي يهيئون أنفسهم لتزعم هذا اليمين مستقبلاً، بما في ذلك «عودتهم» من جديد، كلهم أو معظمهم إلى حزب الليكود و»المنافسة» من داخله على الزعامة في الحزب والدولة على حد سواء.
فهم من ناحية يستبقون الأمر على زعامة اليمين، ومن ناحية أخرى يضعفون الليكود، إذا لم تتم عودتهم إليه، بل ويكسرون شوكته باتهام نتنياهو وإدانته إذا توفرت الإمكانية، و»يلطخون» هيبة الليكود وسمعته إذا ما كانوا في وضع يجدون أنفسهم وهم يتنافسون على زعامة اليمين من خارج الليكود وبالتنافس المباشر معه على هذه الزعامة.
أما أقطاب «الوسط» و»اليسار» فإنهم يطمحون إلى «تسجيل» موقف «مبدئي» أمام جمهور الناخبين، بأنهم أسقطوا نتنياهو، وأنهم لم يتهاونوا أمام مسألة الفساد، وأمام أخطر أنواع الفساد، والذي يتعلق بالأمن القومي تحديداً.
وهم يرغبون إضافة إلى ذلك كله في أن «يحافظوا» على درجة من علاقات «الثقة» مع أقطاب اليمين الحاكم الآن علّهم يحافظون على درجة أخرى من التنسيق معهم في المعارك السياسية والانتخابية القادمة، والتي يبدو أنها لن تكون بعيدة أبداً. لكن الأمور ليست بهذه البساطة على الإطلاق.
فإذا ثبت تورط الدائرة الضيقة من المحيطين بنتنياهو فلن تكون المسألة هنا هي مسألة «أفراد»، وإنما ستتحول موضوعياً إلى مراكز سيطرة ونفوذ في حزب الليكود، ولن يتمكن الليكود من التماسك ككتلة واحدة، وقد يتعرض لهزة كبيرة تطيح بكل مكانته، وقد تصل الأمور إلى انشطارات وتشظيات أكبر بكثير مما تبدو عليه الأمور، الآن.
وإذا ما استعرت الأمور بين مكونات اليمين في إسرائيل فإن خارطة التحالفات السياسية والانتخابية وحتى البرلمانية ستهتز بكاملها ومن آخرها.
وأغلب الظن ـ كما أرى حتى الآن ـ أن العوامل الجديدة التي ستدخل إلى حلبة الصراعات الداخلية في إسرائيل ستكون «مختلفة» عما هي عليه الآن.
فاليمين الاستيطاني العنصري الأكثر تطرفاً وفجاجة سيأتلف مع جناح نتنياهو داخل الليكود وإلى جانبه الأحزاب الدينية، خصوصاً بعد أن فهمت هذه الأخيرة أن «قدرهم على النار» حول التجنيد والميزانيات وحول أسس كل وجودهم وامتيازاتهم.
واليمين «الليبرالي» بالمعنى النسبي الكبير لهذه الكلمة يمكن أن يدخل في تحالف مع «الوسط» ومع بعض مكونات «اليسار»، وقد لا يتمكن اليمين من حكم إسرائيل ـ بالمعنى الحزبي المباشر ـ بعد أن حكمها فعلياً منذ العام 1977 حتى الآن.
ستغوص إسرائيل في ملف الغواصات في بحر ليس واضحاً بعد فيما إذا كانت ستخرج منه بسلام وأمان، وهو ما يؤكد من جديد أن التهديدات الداخلية على مستقبل إسرائيل هي التهديدات الحقيقية التي تعتبر بحق التهديدات الوجودية الفعلية لها في هذه المرحلة، وفي المدى المنظور أيضاً.