الحالة العربية.. تأملات
مقالات

الحالة العربية.. تأملات

لاحقاً للنقاش في المرة السابقة حول حاجة الجامعة العربية لأن تكون جامعة في ظل ما عصف بها من تغيرات فإن البحث عن صيغ مختلفة يمكن أن تكون أكثر ملاءمة للحالة العربية يبدو ملحاً ولا يحتمل التأجيل.
إن البحث عن صيغ أخرى لا تتجاوز بالضرورة فكرة الجامعة العربية بل تحاول أن تلامس واقع الحال العربي يمكن لها أن تخرج الحالة العربية من الكثير من الفشل الذي تعيشه وتكون أكثر منطقية في الإجابة عن الأسئلة العربية، حيث من شأن تلك الصيغ أن تقدم مفردات جديدة للعمل العربي المشترك قائمة ليس على التصورات الذهنية التي لم تعد قادرة على الصمود، ولا بد أن نقول ذلك بحزن، بل على واقع عربي مفكك يصعب النظر إليه بوصفه حالة عربية واحدة.
ثمة مآلات عربية مختلفة قاد إليها مشروع الدولة الوطنية في المنطقة العربية الذي نتج عن مرحلة سايكس بيكو وما تلا ذلك من مرحلة الاستعمار وإعادة تمظهراته بعد رحيل قواته، هذه المآلات أوجدت حالة يجب أخذها بعين الاعتبار.
إن سنوات من البحث الفردي عن مشروع الدولة القطرية أمام انهيار مشاريع الوحدة العربية وتحول العلاقة العربية البينية إلى علاقة عداء في الكثير من الحالات ودخول الدول العربية في حروب مختلفة فيما بينها كل ذلك قاد إلى مآلات متباعدة بين تلك الدول جعل النظر إلى الحالة العربية بوصفها حالة واحدة ضرباً من العمى.
وعليه فإن البحث عن مستقبل الحالة العربية لا بد أن يعترف ولو على مضض بفشل المشاريع السابقة لاستعادة الحد الأدنى من الوحدة العربية، وفشل كل المشاريع السياسية السابقة التي سعت إلى أو استخدمت (وهذا موضع خلاف) فكرة الوحدة العربية والأفكار القومية التي انبثقت ونظرت لها من أجل إنجاز ذاتها.
المؤكد أن الواقع العربي لم يعد يحتمل الكثير من البلاغة مقابل طائرات القادة الإسرائيليين وهي تحط في العواصم العربية ويتجول قادتها في أسواق العواصم العربية.
إن البلاغة لا تفيد بل تركل صاحبها أكثر في نفق الظلام الذي لا يرى فيه ومنه الواقع. لذلك فإن البحث الجدي عن المستقبل العربي يجب أن ينطلق من واقعية مؤلمة.
واقعية تستند إلى حقائق مؤلمة لكنها تحدث وتحدث بمرارة. من المؤكد أن التخلى ولو قليلاً عن المشاعر يبدو مفيداً في هذا السياق، فالبحث عن المستقبل لا يتطلب التخلص من الماضي بل إعادة التمسك به بغية تجاوز مآلات اللحظة الفظيعة التي تعيشها الحالة العربية.
وعليه فإن الخيارات التي يجب أن تكون متاحة لا بد أن تعتمد على حقيقة الواقع العربي كما هو لا كما نريد له أن يكون.
والمؤكد أكثر أن البحث عن الصيغ الجديدة لن يكون اكتشافاً في بحر جديد بل لا بد أن تستند إلى خبرات وتجارب المناطق الأخرى في العالم ولكن تقف على حقيقة واقع الدول التي تريد لها أن تشترك في مصير أكثر قرباً.
نعم البحث ليس عن مصير مشترك ولكن عن مصير أكثر قرباً، يعني ضمن أشياء كثيرة التفكير فيما يمكن أن تكون الحدود الدنيا التي تجتمع عليها مصالح الدول العربية.
بداية واضح أن الدولة القطرية العربية لم توجد لتموت خداجاً كما كان الكثيرون يعتقدون في البداية وواضح أن مصالح النخب الما بعد استعمارية التي حكمت تلك الدول الجديدة تجلت في الحفاظ على واقع الدولة القطرية لأن هذا يعني الحفاظ على مكتسباتها ومواقعها القيادية التي ستضحي بها في حال رضيت بمشروع توحيد الدول العربية لصالح دولة واحدة أو مؤسسة سياسية وإدارية واحدة.
وعليه فقد سعت تلك النخب من أجل تجاوز وإفشال، كما يمكن القول، أي محاولة لإنهاء الدولة القطرية العربية.
وعليه فهذه الدول باقية ولا بد لأي تصور حول المستقبل العربي أن يأخذ بعين الاعتبار أن بقاء هذه الدولة القطرية سيظل حيوياً وضرورياً للقائمين عليها ويجب ألا يسعى، أي هذا التصور، إلى هدمها.
وعليه أي يجيب عن السؤال البديهي في السياسة القائل حول ما النفع الذي ستكسبه هذه الدول ونخبها من التوجهات المشتركة بصرف النظر عن شدتها.
لنتذكر أن الدافع الأساس الذي جعل دول المنظومة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية تنظر نحو تنسيق علاقاتها في أطر وحدوية أو تكاملية محدودة في البداية كانت على شكل شركة حديد وصلب هو تجنب أن مصدر للتوتر قد يقود للحروب المدمرة التي عانت منها تلك الدول في النصف الأول من القرن العشرين.
إن وجود هذا الدافع كان أساسياً في إقناع أول ست دول للخوض في غمار الشراكة في إدارة الفحم والصلب كمواد تصنيع حربي من أجل تجنب أي تصادم.
في الحالة العربية لا بد من وجود حدود دنيا تكون هي الدافع المشترك الذي يجعل تقبل فكرة إدارة الشأن العربي في بعض الاتجاهات ذات نفع.
إن عدم المكابرة والنظرة الواقعية يمكن لها أن تدلنا على الكثير من تلك النقاط التي تصلح بداية لعمل عربي تدريجي من شأنه وفق التكامل التدريجي أن يعود بنا إلى بعض مواقع الطموح المبكرة للحالة العربية.
إن الغاية يجب أن تكون تحقيق التقدم في أي شيء من أجل وقف الانهيارات في الحالة العربية التي باتت سمة أساسية في توصيف علاقات الدول العربية فيما بينها، حتى بات البحث عن المشترك أمراً صعباً.
المؤكد في هذا أن النقاش حول إصلاح جامعة الدول العربية لا بد أن يصب في هذا الاتجاه من أجل الوقوف على مكامن المستقبل الذي لا نعرفه.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.