إسرائيل بين تقريرين!
أولاً، التقرير الاستراتيجي السنوي الصادر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، والذي يتعلق بفلسطين.
يرى التقرير أن (المشكلة الاستراتيجية) لإسرائيل تتمثل في «ابتعادها» عن الحل السياسي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ويؤكد التقرير أن محاولات «كسب الوقت»، وتأجيل اتخاذ القرارات الاستراتيجية في الشأن الفلسطيني ستؤدي حتماً إلى الانزلاق نحو واقع الدولة الواحدة، وهو واقع يصفه التقرير بكونه يشكل (تهديداً خطيراً) على المشروع الصهيوني، وهدفه «السامي» «بإقامة دولة يهودية، ديمقراطية، آمنة وأخلاقية».
ويرى التقرير ويبرز كيف أن غياب الأفق السياسي، والاستمرار في البناء الاستيطاني «خارج» الكتل الكبيرة، وشرعنة البؤر الاستيطانية، والصفقات مع حركة حماس على حساب السلطة الوطنية ستؤدي إلى وجود كيانين منفصلين متنافسين، وإلى عمليات كبرى من «الاندماج» الاقتصادي ستؤدي الى استحالة الفصل من جهة والى زيادة «الاحتكاك» بين الفلسطينيين والمستوطنين من جهة أخرى ما سيزيد من فرص واقع الدولة الواحدة.
ويرى التقرير أنه ومن أجل تسهيل مهمة «الانفصال» عن الفلسطينيين فإنه لا بد من العمل على نزع سلاح حركة حماس والاستعداد لعملية عسكرية تقوم بهذه المهمة، وعلى أن يتم إشراك الإقليم العربي في تنمية القطاع وإعماره ـ (بعد زوال التهديد الأمني)، كذلك لا بد من إعطاء الفرص للسلطة الوطنية من أجل تثبيت سلطتها وليس تقويضها، باعتبارها «الشريك» السياسي الأساسي، والعمل على توفير الدعم الإقليمي لها، ونقل «الصلاحيات» لها في مناطق «ب» و»ج» بحيث يصبح أكثر من 99% من سكان الضفة والقطاع تحت سيطرتها.
ويسترسل التقرير في أوجه دعم السلطة اقتصادياً، ويصل إلى ضرورة «إنعاش» الوضع الاقتصادي في القدس الشرقية وكذلك الواقع التعليمي والتشغيلي للفلسطينيين فيها.
ويرى التقرير أن فترة ما بين ثلاث سنوات وخمس هي الفترة الانتقالية المطلوبة قبل بناء مقومات وبنى تحتية «لدولة» فلسطينية في المستقبل! (ملاحظة: كافة الأقواس من عندنا وليست أصلاً في التقرير).
والملاحظة الأولى هنا، هو أن هذا التقرير ينتقد سياسات الحكومة الاسرائيلية الكلية الشاملة على هذا الصعيد، وكذلك الحكومات السابقة التي حاولت الابتعاد عن مواجهة ضرورة البحث عن الحل السياسي.
أما الثانية، فهي أن هذا التقرير، وبهذه الدرجة من الوضوح يحذر من «خطر» استمرار هذا الاستبعاد على كامل المشروع الصهيوني، ويرى فيه (أي الاستبعاد) خطراً وجودياً على هذا المشروع، وهو اعتراف مهم وخطير، وهو يمثل حالة اختراق جديدة للسياسات اليمينية المتطرفة التي شرع بها ودشن مرحلتها التاريخية الجديدة حزب الليكود بقيادة نتنياهو، ويواصلها نفتالي بينيت بنفس التوجهات والسياسات، بل وبنفس الأدوات أيضاً.
والملاحظة الثالثة، هي أن التقرير والذي يعكس موقف الأوساط الليبرالية ـ على ما يبدو ـ والتي تتموضع أساساً في اليمين الليبرالي والوسط الإسرائيلي يعكس اتجاهاً يرغب من خلاله «التوافق» بقدر ما ممكن على التوجهات القائمة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويمثل اتجاهاً لا يرفض مبدأ إقامة الدولة الفلسطينية، لكنه على استعداد لعمل كل ما هو ممكن من أجل تقييدها وتأخير قيامها دون إغفال أهمية «الإبقاء» على أمل قيامها في ظروف لاحقة، وليس قبل ضمان أن تكون بمثابة «الجدار السياسي» الذي يضمن بقاء المشروع الصهيوني في شروطه الجديدة، وهي شروط تفرض القطع مع المشروع اليميني.
والملاحظة الرابعة، هي أن هذا التقرير هو بمثابة إنذار مبكر (والحقيقة أنه متأخر للغاية) بأن عدم الانفصال سيؤدي حتماً ليس إلى مجرد ما بات يعرف بالدولة الواحدة وإنما بدولة الفصل العنصري.
وسواء أوضح التقرير هذا «الرعب» أم لا، وسواء جاء هذا «الاستنتاج» مباشراً أو مكتوماً أو متستراً خلف بعض العبارات والمصطلحات المتداولة في القاموس السياسي الإسرائيلي، فإن هذا التقرير هو بمثابة اعتراف صريح بهزيمة المشروع الصهيوني في شقه اليميني العنصري، ومراوحة المشروع الصهيوني «المعتدل» في منطقة التخوم الفاصلة ما بين الفشل التاريخي، وما بين محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وفي هذا الإطار، يأتي تقرير منظمة العفو الدولية الذي وصف النظام الإسرائيلي بنظام فصل عنصري، قاس، يقوم على الهيمنة ويمثل جريمة ضد الإنسانية.
وأتى التقرير على أدق تفاصيل السياسات والتشريعات والممارسات والسلوك المنهجي المتسق في انتهاك حقوق الفلسطينيين ليس فقط في الأراضي المحتلة ومدينة القدس، وإنما في الداخل الفلسطيني أيضاً.
فما هي أهمية هذا التقرير ارتباطاً بالتقرير الأول؟
فإذا كان تقرير منظمة العفو الدولية قد قرر وبناءً على متابعة مثابرة وحثيثة، بكل حيادية ودونما انحياز من أي نوع كان، فإن تقرير معهد السياسات القومية هو بدوره يؤكد على ما جاء في تقرير المنظمة دون الاعتراف المباشر به، ودون الإعلان المباشر عن مضمونه، لأنه يرى في السياسات الإسرائيلية ما يصل بها «حتماً» إلى الفصل العنصري.
والسبب واضح بصورة صارخة، إذ لا يمكن للتقرير الإسرائيلي أن يقبل بمشروع الدولة الواحدة مهما كلف الأمر، وهو يعمل من أجل قطع الطريق على هذا الوصول، وهو لهذا السبب، وليس لأي سبب غيره ينذر ويحذر ويرى أن هذا الخطر بات باللون الأحمر.
ليس متوقعاً من حماة المشروع الصهيوني، ومن يحرصون على هذا المشروع أن يعترفوا بأن دولتهم وحلمهم الصهيوني قد انتهى إلى دولة للفصل العنصري، ولكن اللافت للانتباه هنا أن هذا الاعتراف هو «الكلمة الضائعة» في مربع الكلمات المتقاطعة هنا، وهو السر المدفون في ثنايا هذا التقرير.
ليست منظمة العفو الدولية تابعة لهذا البلد أو ذاك، أو لهذه الجهة أو تلك، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، وتقاريرها ليست مسيسة بأي شكل من الأشكال، ولها مصداقية عالية بصرف النظر عن مدى انسجام مختلف الاتجاهات معها من عدمه، ولهذا فإن لتقريرها قوة غير مسبوقة، وتمثل مرجعاً قانونياً للمحكمة الجنائية الدولية، ويمثل تقريرها أساساً صلباً في مواقف المجتمع الدولي، وسلاحاً جباراً في أيدي الشعب الفلسطيني.
لكن المؤسف والمحزن في آنٍ معاً أن كلا التقريرين يأتي في ذروة حالة التردي الفلسطيني على كل الصعد، وعلى كل المستويات، ما يجعل من استثمارهما أمرا صعباً وشكلياً، وبعيداً كل البعد عن قوة التأثير والتغيير المطلوبة والممكنة.