هل يوجد معيار لنجاح أو فشل «المركزي»؟
جوابي هو نعم، يوجد مثل هذا المعيار.
لكن دعونا أولاً نرَ بعض الصور المقلوبة في الحالة الفلسطينية!
على مدار الأسابيع القليلة الماضية، وفي الأيام القليلة تحديداً جرت محاولات دؤوبة لتصوير انعقاد المجلس المركزي وكأنه «كارثة» سياسية، وصُوّر هذا الانعقاد وكأنه أحد أولويات الخطر على الحالة الوطنية، وجرى نشاط محموم، بكل ما في هذه الكلمة من معنى لاعتبار هذا الانعقاد بداية النهاية للمؤسسة الوطنية، والنظام السياسي و»لتدشين» مرحلة جديدة من الخراب، والسير نحو المجهول!
ولو قلبنا صورة هذا المنطق فماذا ستكون النتيجة؟
النتيجة هي أن لا «قيمة» لرأي المؤسسة الفلسطينية، ولا قيمة لكل الفصائل التي شاركت في حضور هذا الاجتماع، ولا قيمة للمنظمات الشعبية والاتحادات والشخصيات، ولا قيمة لمئات آلاف الناس التي تنضوي تحت لواء كل هذه المنظمات والفصائل والاتحادات، وهي كلها ضالّة ومضلّلة، وأما من يرى في انعقاد جلسة المركزي «وبالاً» على الشعب الفلسطيني فهو الذي يعكس نبض الناس، ويمثل الحالة الوطنية خير تمثيل، وهو يعكس التمسك بالمشروع الوطني، والحقوق الوطنية، ويسعى لتحقيق أهداف هذا المشروع!
عندما تصور الأمور وكأن مجرد انعقاد المجلس المركزي هو «كارثة ووبال» سياسي يتبخر المنطق وتلتبس المواقف، وتصبح الأحكام مسبقة الصنع، ويضيع العقل الجمعي، وينقسم على نفسه، وتتخندق الأفكار والرؤى والمواقف والتموضعات.
الحاضرون ليس كلهم على قلب رجلٍ واحد، فمنهم من هو «مستعد» للسير في مسار التساوق مع «معطيات الواقع»، ولكن غالبيتهم ترمي إلى حماية المشروع الوطني، حتى وإن لم تنخرط بعد في آليات عمل مباشر لتوفير أسس هذه الحماية.
والغائبون كذلك ليسوا على قلب رجلٍ واحد، فمنهم من هو «مستعد» للسير في طريق «خلق» البدائل، و»اختراع» الأجسام الموازية، خدمة لأهدافهم فقط، بصرف النظر عن الوطن والمواطن والأهداف والحقوق الوطنية، ومنهم من هو يسعى بكل ما أوتي من جهد ونشاط لحماية المؤسسة الوطنية، وعدم التفريط بها، ولكنه لا يرى طريقاً لذلك سوى الغياب والمقاطعة والاحتجاج الخاص، «بعيداً» عن مشقة البحث عن المشترك والممكن والمتاح.
هذا كله أولاً.
أما ثانياً، وطالما أن الحضور أو الغياب ليس هو المسألة الأكثر أهمية، وطالما أن الحضور هو من قبيل المعتاد والغياب أيضاً، ولا يوجد ما هو جديد بصورة خاصة ونوعية، فإن معيار أو معايير النجاح أو الفشل تنقلنا إلى العناوين الحقيقية لهذا النجاح وهذا الفشل.
المعيار الأول كما أراه هو اعتبار هذه الدورة للمجلس المركزي هي آخر دورة شرعية له، وذلك لأن الحالة الوطنية الفلسطينية كلها اتفقت وتوافقت على أن يكون المجلس الوطني الفلسطيني الأخير 2018 هو المجلس الأخير، وأن المجلس الجديد سيكون بقدر ما هو متاح مجلساً تمثيلياً في جانبه الأكبر، و»متوافقاً عليه» في الجانب المتبقي بما في ذلك «كوتة» الشخصيات المستقلة وتمثيل بعض القوى والفئات الخاصة مثل الأكاديميين والكتّاب والعلماء والمثقفين وغيرهم.
إذا لا يُعقل أن يتم «تأبيد» هذا المجلس أو تأخير انتهاء صلاحياته، لأن من شأن ذلك أن «يؤبد» غياب المجلس الوطني والذي هو صاحب الولاية الشاملة، وأعلى سلطة لدى الشعب الفلسطيني، وهو فوق كل الصلاحيات وكل المؤسسات.
إذا لم يلحظ المجلس المركزي هذه الحلقة الكبيرة فإن ذلك هو عنوان فشل بصرف النظر عن أي تبرير أو تفسير، وبصرف النظر عن الدوافع أو الصعوبات والمعيقات.
وأما المعيار الثاني فهو محاسبة اللجنة التنفيذية على عدم تنفيذ قرارات المجلس الوطني وقرارات المجلس المركزي.
لا يجوز بأي حال أن تمر هذه المسألة مرور الكرام إذا أراد المجلس المركزي اليوم، وفي المستقبل، بقوامه الحالي، وبقوامه المستقبلي أن يكون الحلقة الوسيطة الفاعلة للفترة الفاصلة بين دورات المجلس الوطني.
وإذا فقد «المركزي» دوره الرقابي، وإذا لم يتصدَ لتقصير اللجنة التنفيذية فإنه يفقد إحدى ركائز وجوده وصلاحياته.
المعيار الثالث هو أن يضع هذا المجلس آليات واضحة، محددة وملموسة بمؤشرات زمنية ملزمة لتنفيذ القرارات السابقة إذا أعاد التأكيد عليها، والقرارات الجديدة التي سيتخذها.
وأن أي ميوعة أو تهرُّب، أو تسويف بشأن هذه الآليات الملموسة والمحددة زمنياً سيعتبر عنوان فشلٍ كبير، في حين أن اعتمادها سيعتبر بكل المقاييس عنوان نجاح محقق.
المعيار الرابع هو القطع مع ثلاثة أوهام:
الوهم الأول هو محاولة الجمع بين العمل على «التصدي» السياسي للمشروع الصهيوني وما بين «التعايش» معه على الأرض، تحت مبررات الواقع المعيشي أو الصعوبات الاقتصادية، أو حتى الاحتياجات المفروضة بحكم الواقع القائم، لأن هذه المعادلة لا يمكن أن تظل قائمة إلا بقدر ما يتحول «التصدي» السياسي للاحتلال إلى كليشهات فارغة ومفرغة من مضمونها لصالح «التعايش»، والذي سينتهي إلى بعض أشكال التساوق مع هذا الاحتلال، ولهذا فالحل هو حصر «التعايش» في حدود الضغوط الموضوعية المفروضة في ظل قطع سياسي كامل مع الاحتلال.
القطع السياسي معادلته بسيطة وصريحة وواضحة:
اتفاقيات أوسلو انتهت، الاعتراف المتبادل انتهى، نتمسك بمسار التسوية على قاعدة الشرعية الدولية فقط، لم تعد رسائل الاعتراف المتبادلة قائمة، مستعدون لشكل جديد من الاعتراف قوامه (نعترف بدولة إسرائيل فقط مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطين على كامل الأرض الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران وفي القلب منها القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين)، ونودع هذه الصيغة في الأمم المتحدة تعبيراً عن تمسكنا بالشرعية الدولية والتزاماً بهذه الشرعية.
أما إذا أرادت إسرائيل أن نعترف بها كدولة «للشعب» اليهودي كلّه فإننا نطلب بالمقابل أن تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية للشعب الفلسطيني كلّه، وبقدر ما هو مسموح لكل يهودي أن يعود إلى دولة «الشعب» اليهودي، يصبح من المسموح عودة كلّ فلسطيني إلى دولة الشعب الفلسطيني، وهذه الصيغة ليست قائمة في القانون الدولي والشرعية الدولية إلا في هيئة قرار التقسيم (181)، والذي هو القرار الوحيد الذي أعطى لإسرائيل شرعيتها آنذاك، والعودة هنا فقط لقرار التقسيم.
الوهم الثاني هو وهم أننا غادرنا مرحلة التحرر الوطني، وأننا نعيش مرحلة الاستقلال الوطني.
هذا الوهم هو الذي أدى بنا إلى «اعتماد» السلطة الوطنية كبديل عن منظمة التحرير، وهو الذي أدى إلى تهميشها، وإلى المراهنة على الحل السياسي الموهوم.
إسرائيل حسمت هذه المسألة، وهي تعلن على رؤوس الأشهاد أن لا حل، ولا دولة، ولا تفاوض، والعالم يقول يوماً بعد يوم إن إسرائيل هي دولة فصل عنصري ضد كل الشعب الفلسطيني، من الناقورة إلى رفح، وفي كل مكان وتجمّع.
فإما أن نعيد المعادلة لكي تقف على قاعدتها، أو تظلّ مقلوبة على رأسها. إذا لم يبدد المجلس المركزي هذا الوهم، ولم يقلب المعادلة فإنه سيسجل عنوان فشلٍ كبير.
أما الوهم الثالث فهو الاستمرار في «لعبة» المقاومة الشعبية وكأنها للاستعراض السياسي.
إذا لم تتحول المقاومة الشعبية إلى برنامج عمل يومي، وإلى عادة يومية فلسطينية تمارس في كل المجالات، وفي كل الأوقات، وفي كل مكان من الأرض المحتلة فإنها ستتحول إلى أحد الأشكال التي يمكن أن يتعايش معها الاحتلال دون أي خسارة حقيقية، ودون أن تشكل أي ضغوط على احتلاله.
هذه بعض ـ وليس كل ـ عناوين ومعايير النجاح والفشل، وهذه هي حقيقة الدور المطلوب من هذا المجلس، وأما دون ذلك، أو بتجاوز ذلك فليس سوى المزيد من التيه، والمزيد من المجهول.