ما بعد المركزي
يستطيع كل طرف، سواء من المشاركين في اجتماع المجلس المركزي أو من المقاطعين لدورته الحادية والثلاثين الأخيرة، أن يدبّج مقالاتٍ مطوّلةً ومجلداتٍ في شرح أسباب موقفه، كما في تخطئة الموقف الآخر، وهو ما ينطبق كذلك على تقييم المداولات والنتائج والقرارات. وهذه الحقيقة التي تنطوي على تناقض حادّ، ليست بالضرورة لغزا محيّرا ولا لعبة كلامية سفسطائية، بل هي سمة من سمات الانقسام الفلسطيني، وعلامة من علاماته من جهة، ودليلا على أن لا أحد إطلاقا، لا فردا ولا حزبا ولا حركة، يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا الموقف المثالي الخالي من العيوب.
وما يهمنا في هذا المقام هو التفكير بعقل بارد، في الوضع الذي وصلنا إليه وإمكانيات الخروج منه، بعيدا عن لغة التحريض والتهييج والمبالغات من الطرفين، التي سبقت انعقاد المجلس، وما زالت تتردد في تقييم نتائجه، فالحقيقة الساطعة تؤكد لنا أن السماء لم تنطبق على الأرض في السابع من شباط الجاري، وأننا ما زلنا نعيش الظروف ذاتها، والانقسام ما زال قائما، والاحتلال ما زال سادرا في جرائمه وانتهاكاته وخاصة جريمة اغتيال الشهداء الثلاثة في نابلس في وضح النهار إلى جانب الاعتقالات اليومية وهدم المنازل وطرح مزيد من العطاءات للبناء الاستيطاني.
لا يمكن لمن حضروا ودافعوا عن حضور المجلس المركزي أن يشككوا في أن هذه الدورة كانت من أكثر دورات المجلس المركزي إشكالية وأضعفها من حيث اتساع التمثيل، أو ما يسمى النصاب السياسي خلافا للنصاب القانوني والعددي الذي يمكن للقيادة التي تدعو للاجتماع أن توفّره دائما بحكم تركيبة المجلس. فإلى جانب غياب حركتي حماس والجهاد الإسلامي غير الممثلتين رسميا كفصائل في المجلس المركزي. فقد غابت كل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والقيادة العامة والصاعقة وحركة المبادرة، كما انسحب حزب الشعب الفلسطيني بعد الجلسة الأولى بشكل احتجاجي، وبرزت معارضة جدية ومعلنة في صفوف كوادر وأعضاء الجبهة الديمقراطية لقرار الحضور، وقاطع عدد من الأعضاء المستقلين الجلسة مع أن بعضهم مقربون لحركة فتح والأطراف التي شاركت، بعضهم أعلن عن مقاطعته والبعض الآخر لم يعلن تجنبا لإحراج جماعته.
كما أن القرارات الصادرة عن المجلس بدت، وكما أظهر بحق عدد كبير من الصحفيين والمتابعين، أقرب إلى كونها تكرارا حرفيا، على طريقة القص واللصق، للقرارات التي صدرت عن الدورات السابقة للمجلس، وبالتحديد ما يتصل بوقف التنسيق الأمني وتعليق الاعتراف بدولة إسرائيل، وتفعيل دور المجلس وتعزيز سلطته الرقابية على اللجنة التنفيذية ودورية اجتماعاته، ما يوحي بأن هذه القرارات هي محض بيانات، ولا تملك قوة الإلزام القانوني والسياسي، وبالتالي فإن القرارات دائما تكون في وادٍ بينما الممارسة والتطبيق في وادٍ آخر، وذلك ما يعزز الادعاء بأن هذا المجلس يُستدعى فقط عند الحاجة لتمرير توجّهات، أو شرعنة خطوات أو لملء الشواغر. والدليل الدامغ على ذلك هو أن المجلس المركزي نفسه لم يجتمع منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، وبالتحديد منذ شهر آب/ أغسطس 2018، مع أنه يجب أن يجتمع مرة كل ستة أشهر، على الرغم من حجم وأهمية الأحداث التي عصفت بفلسطين والقضية الفلسطينية بدءا من صفقة القرن، مرورا بأحداث القدس والشيخ جراح والحرب على غزة وتغيير الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، ثم الأزمات الداخلية المتلاحقة وإلغاء الانتخابات التشريعية، وكل واحد من هذه التطورات كان يستدعي الاجتماع بشكل ملحّ.
كما برزت مخاوف جادّة من أن يشكل المجلس المركزي بتركيبته الموسعة بديلا للمجلس الوطني وللمجلس التشريعي بما يعني صرف النظر عن استحقاق الانتخابات سواء للمجلس التشريعي او المجلس الوطني عينه.
ومع كل هذه المآخذ والملاحظات ينبغي عدم التهوين او التقليل أبدا من أهمية المؤسسات التمثيلية الشرعية، المنبثقة عن منظمة التحرير الفلسطينية، التي ترمز لوحدة الشعب الفلسطيني وتحظى بالاعتراف الدولي والعربي والمحلي، وتعبر عن تمسك شعبنا بحقوقه الوطنية التي هي حقوق سياسية، وليست ولم تكن مجرد حقوق معيشية لهذا التجمع أو ذاك، وبالتالي فإن الطعن في شرعية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني والحديث عن تشكيلات وأطر بديلة يصب في مجرى تحويل الفلسطينيين من شعب موحد على الرغم من اختلاف الظروف القانونية والسياسية والجغرافية لتجمعاته المختلفة، إلى تجمعات سكانية لكل منها مطالبه الخاصة، بل إن هذه التجمعات نفسها قابلة لمزيد من التقسيم والتفتيت والتشظي.
الاكتفاء بالمقاطعة من دون اقتراح البدائل الواقعية والمقبولة، لا يفيد في شيء سوى في إقناع أصحاب هذا الموقف لأنفسهم بشيء من الطهرانية الثورية التي لا تعكس نفسها في الحسابات العملية والواقعية، وكان الأجدى والأجدر بالمقاطعين واصحاب التحفظات ان يجمعوا ما لديهم من مواقف وآراء وملاحظات، فيوحدّوا صفوفهم لكي يشكلوا قوة ضاغطة ومؤثرة وقادرة على انتزاع قرارات سياسية وتنظيمية تخدم مواقفهم وتوجهاتهم بالذات، لكن ذلك لم يحصل، فتشتت الآراء وتفرقت المواقف فكانت الحصيلة كما رأينا.
ليس من المتوقع أن يحمل اجتماع المركزي وقراراته في هذه الدورة بالذات، تأثيرات حاسمة على مسار القضية كما يتوقع المتشائمون، مع أن النتائج التنظيمية غلبت على النتائج السياسية لدى كل المتحمسين للمشاركة. ولكن من المهم أن تدرك القيادة أن الشرعية المستمدة من الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير ومن تاريخها النضالي ليست رصيدا مفتوحا إلى ما لا نهاية، فهذه الشرعية بحاجة ماسّة إلى تجديد وتعزيز، وهذه العملية لها بوابة واحدة لا بديل لها هي إنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية عبر الانتخابات الشاملة.