«أنا حاج»، رواية عن صراع الحضارات..!!
تفاديت "أنا حاج" (2014) لتيري هايز على مدار سنوات مضت. قرأت عنها مراجعات كثيرة، ولكن حجمها (620 صفحة) ووصم صاحبها بالإسلاموفوبيا، حالا دون إشباع حب الاستطلاع حتى وقت قريب. تنتمي الرواية إلى ما يُطلق عليه بالعربية الرواية البوليسية (تندرج في هذا الجنس أجناس وتسميات كثيرة في اللغات الأوروبية)، وهي الأولى للبريطاني هايز، الذي اشتغل في كتابة السيناريو، وإنتاج أفلام هوليوودية من طراز "ماد ماكس". شاهدت الفيلم وأتسلى به، بصرياً وتحليلياً، من وقت إلى آخر.
قراءة الروايات تمنح القارئ وهم القراءة، وتبدو مضيعة للوقت خاصة مع الروايات الرديئة، ولدينا منها، وفي العالم، أطنان وأطنان. ومع ذلك، ليس في رواية هايز ما يُشبع وهم القراءة، فهي ممتعة، فعلاً، ومكتوبة بتقنيات سردية ومهنية عالية، فعلاً، وعلاوة على هذا وذاك، تصلح وسيلة إيضاح لأمرين: معنى ومبنى الرواية البوليسية، وهوية وماهية الإسلاموفوبيا.
يحتاج مَنْ لا يريد أن يكون مغفلاً مفيداً - يصب الماء في طاحونة الإخوان والوهابيين - إلى قدر من التحفّظ والحذر عند التعامل مع تعبيرات أصبحت شائعة من نوع "الإسلاموفوبيا". فغضب المواطنين الأميركيين والأوروبيين، وغيرهم، الذين طالتهم الهجمات الإرهابية في نيويورك، ولندن، وباريس، وبرلين، جدي وحقيقي. لذا، لا يندرج الكثير من تعبيرات الاستنكار والغضب، في باب التجني أو العنصرية. وبالقدر نفسه، ثمة الكثير من النفاق في كلام الحكومات الغربية، وأوساط يسارية مختلفة، عن ضرورة الفصل بين الظاهرة الإرهابية والدفيئات الاجتماعية والفقهية التي أنجبتها.
لذا، ومع هذا كله في الذهن يدور الكلام، هنا، عن رواية هايز بوصفها وسيلة إيضاح لكيفية كتابة رواية بوليسية ناجحة، وكيفية التمييز بين الإسلاموفوبيا، كظاهرة عنصرية، والنقد الثقافي والسياسي المشروع.
والمُلاحظ، في هذا الشأن، أن هايز أراد أن يكتب رواية الروايات، إذا جازت التسمية، فحشد على امتداد ستمائة صفحة تقنيات وحيلاً سردية وحبكات مختلفة، اشتغل على المونولوج، والفلاش باك، أنشأ البنية السردية لجريمة أولى كلاسيكية تماماً (الجريمة الكاملة) واشتق منها عدداً من الجرائم اللاحقة، وجعل لكل منها حبكتها الخاصة، وأبقى "كرت الحصان الأسود"، وحلّ خيوط اللغز، في جيبه حتى المشهد الأخير.
مزج هايز بين اعتماد المحقق التقليدي (شيرلوك ودكتور واطسن) على الدليل والاستنتاج، وبطل الوطنية الأميركية، أي جندي القوات الخاصة، بعد أفغانستان والعراق، ولكن في صورة البطل الضد هذه المرّة. وإلى هذا كله أضاف الهولوكوست، والحرب على الإرهاب، بتعبيرات إثنوغرافية وسياسية في آن. ومن الواضح أن حرفة السيناريو، ومهنة إنتاج الأفلام قد أسهمتا في تعزيز البصري في النص، وفي شحنه بعنصر التشويق والإثارة.
والمفارقة أنني رأيتُ في النص ما لم يثر اهتمام المعلقين على الرواية في كبريات الصحف الأميركية والبريطانية، أعني العتبة، كلمة "حاج" التي اختارها هايز عنواناً لروايته، وتسمّى بها الفاعل الرئيس، الذي لا نعرف، ولا يعرف، أصله وفصله بطريقة واضحة، فهو ابن بالتبني لعائلة أميركية ثرية، وثمّة أشباح ذكريات بعيدة عن عائلة بيولوجية نجت من المحرقة. اشتغل في آخر سنوات الحرب الباردة، وراء "الستار الحديدي"، في أجهزة الأمن الأميركية، وقرر الحياة بعيداً عن هذا العالم، ولكن هجمات الحادي عشر من أيلول أعادته، مُرغماً، إلى عالم هرب منه.
"حاج" هي التسمية التي أطلقها الطهرانيون الأوائل على أنفسهم، وهم الذين أنشؤوا المستوطنات الأولى في أميركا الشمالية، وأسقطوا خارطة الكتاب المقدّس عليها (لذا، تجد بلدات أميركية كثيرة تحمل أسماء مستمدة من الكتاب المقدّس كالقدس والخليل وأريحا وغزة وبيت لحم). نظروا إلى القارة الجديدة كأرض ميعاد مقدّسة جديدة، وإلى السكّان الأصليين بوصفهم "العماليق" الذين رشّحهم المخيال التوراتي للإبادة. وعلاوة عليه، "أنا حاج" عنوان ترنيمة دينية شائعة في أميركا تعود إلى أواسط القرن التاسع عشر، وينادي فيها "الحاج" الرب لخلاص روحه.
لذا، لا أجد مجازفة في القول: إن "أنا حاج" تنتمي إلى "إسلاموفوبيا" صراع الحضارات، بالمعنى العنصري والقومي للكلمة، وتصدر عن قناعة بتناقض بنيوي مزعوم بين حضارة يهودية - مسيحية (مزعومة، أيضاً) وحضارة إسلامية لا تقل عن هذه ولا تلك غموضاً. نتكلّم بمزيد من التمثيل في معالجات لاحقة.
المهم، بدت تسميات وتعميمات من نوع "حضارة"، و"عرق" و"ثقافة" و"شرق" و"غرب" طبيعية تماماً في قرون مضت، وحتى أواسط القرن الماضي، ولكنها فقدت الكثير من صدقيتها مع تقدّم مناهج وأدوات البحث في العلوم الإنسانية. ومع ذلك، تبدو التعبيرات نفسها صحيحة تماماً، بل وتحظى بمكانة الأبقار المقدّسة، في نظر القوميين، والقوميين الدينيين، والمحافظين، في "الشرق" و"الغرب" على حد سواء.
ومع ذلك، وبما أن الشيطان في التفاصيل، كما يُقال، فمن فوائد الطريقة التي تُصاغ بها المجابهة بين كتلتين حضاريتين وهميتين، على طرفَي نقيض، أنها تمكننا من تسليط الضوء على جوانب معيّنة في سردية "صراع الحضارات". وإذا كنّا قد عرفنا الأخيار في رواية ما بعد الحرب الباردة، فمن هم الأشرار؟
والجواب، بقدر ما يتعلّق الأمر بهذه الرواية (وروايات كثيرة كما سنكتشف لاحقاً) أن صورة الأشرار تتجلى في خلطة عجيبة تضم الفلسطينيين (وهم أشرار تقليديون شاع ذكرهم في السبعينيات في روايات الحرب الباردة) والسعوديين، وهؤلاء هم الوافدون الجدد لا كأفراد وحسب، ولكن كنظام وبنى اجتماعية وسياسية وهابية، أيضاً، وكذلك الإيرانيين والأفغان. الجامع بين هؤلاء أنهم إرهابيون يريدون تدمير الغرب، وأن الغرب إذا لم يتدبّر أمره بالقوة والحزم الكافيَين يحكم على نفسه بالموت. كيف صنع هايز حبكته الروائية من خلطة كهذه؟ فاصل ونواصل.