نهاية النظام أحادي القطب
تتصاعد الأزمة على نحو خطير بين الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة، وبين روسيا، على خلفية الأحداث الساخنة بين الأخيرة وأوكرانيا المهدّدة باجتياح عسكري روسي.
بالتأكيد ثمة تراكمات أمنية وعسكرية جرت خلال عقود سابقة منذ انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفييتي نجحت خلالها الولايات المتحدة، في توسيع «الناتو»، وتوسيع دائرة وجودها العسكري ليشمل دول أوروبا الشرقية، ولتحقق اقتراباً شديداً من حدود روسيا الغربية والجنوبية.
على أن الأوضاع تتجاوز سعي روسيا لتأمين جوارها القريب ومنع «الناتو» من القبول بانضمام أوكرانيا للحلف، وإنما ثمة قراءة عميقة للتحولات الدولية، بما يجعل الساحة الدولية أمام محاولات جادّة لتغيير قواعد النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وتطور لصالح الاحتكار الأميركي بعد سقوط المنظومة الاشتراكية.
في قراءة للمشهد، فإن وجود مئة وتسعين ألف جندي روسي على حدود بيلاروسيا، وعلى طول الحدود مع أوكرانيا، واستنفار الأساطيل الروسية، وأنواع متقدمة من الأسلحة والطائرات، فإن القيادة الروسية، لا يمكن أن تقوم بهذا الحشد والجهد الهائل، حتى ينتهي كل ذلك، دون تحقيق جزء من الأهداف وربما كلها.
تعترف رئيسة المفوضية الأوروبية أن ما يجري سيؤدي إلى تغيير النظام الدولي مقابل ذلك تحشد الولايات المتحدة وحلفاؤها ترسانة عسكرية نوعية لدعم أوكرانيا، وبولندا، وتقول إنها لن تشارك في الحرب حال اندلاعها، لكنها تبدو وكأنها تتوسل الحل الدبلوماسي بما يعني أنها في موقع دفاعي.
يُصرّ الرئيس بايدن على أن ثمة قراراً روسياً بشن الحرب على أوكرانيا، وأن الحرب قد تقع في أي وقت، لكن الرسالة الأساسية التي بيده وبيد حلفائه، تركز على تهديد روسيا باتخاذ أقصى وأقسى العقوبات الاقتصادية.
لا يبدو أن روسيا لم تجرِ حساباتها، لاحتمال إقدام الولايات المتحدة، والدول الأوروبية على فرض عقوبات اقتصادية على روسيا حال اندلاع حرب، فثمة ما يمكن اعتباره تحالفاً راسخاً بين روسيا والصين، التي سيأتي دورها في وقت لاحق لحسم موضوع تايوان.
الصين هي الأخرى تشعر بتهديد غير مقبول من التمدد الأميركي العسكري والأمني، وسط آسيا وبالمنطقة التي تقع بين الصين وروسيا. روسيا مصممة على توظيف ترسانتها العسكرية بما في ذلك النووية التكتيكية، لتغيير قواعد النظام الدولي وإبعاد التهديدات الأمنية والعسكرية التي تحوز عليها الولايات المتحدة على نحوٍ واسعٍ يشمل تقريباً كل أوروبا فضلاً عن قواعد أخرى في أوكرانيا وبولندا على حدود روسيا.
التحركات الروسية العسكرية تشير إلى أن القيادة الروسية مستعدة لنشر أسلحتها النووية الاستراتيجية خارج نطاق روسيا، لتشمل المياه الدولية وأعالي المحيطات.
تريد روسيا أن تقول إنه إذا كانت الولايات المتحدة نجحت في توسيع «الناتو»، ووجودها العسكري ليشمل أوروبا، والدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، وبالاقتراب إلى حدود روسيا، فإن روسيا قادرة وعازمة على توسيع وجودها وقدراتها النووية الاستراتيجية على مساحة واسعة من المحيطات والبحار وامتلاك قدرات دفاعية وهجومية توازي القدرات الأميركية.
الأزمة متصاعدة، ومن غير الواضح أن ثمة إمكانية للاتفاق على حل دبلوماسي، رغم أن الأطراف لا تزال تقول إن هذا الحل لا يزال ممكناً، ولكنّ ثمة سباقاً بين الحلين الدبلوماسي والعسكري.
ما يجري من خروقات عسكرية بين الجيش الأوكراني، ومناطق الانفصاليين قد يشكل مؤشراً على بداية خلق الذرائع والأسباب، خاصة أن روسيا بدأت تستقبل مئات الآلاف من المدنيين الروس.
الحشد الجاري من الطرفين غير مسبوق وحتى أنه يتجاوز الحشد العسكري خلال الحرب العالمية الثانية مع احتساب التطور النوعي للأسلحة، وامتلاك القدرات النووية التدميرية على نحوٍ خطير.
إذا كان ما يجري مؤشرا إضافيا على تراجع الدور الأميركي على المستوى الدولي، ونحو فقد موقع القيادة في النظام الدولي، والتقدم نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، فإن ما يجري والقادم يؤشر على أسباب وأبعاد تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط.
العرب ليسوا في حسابات أحد، فهم مع تراجع الاهتمام الأميركي يستقدمون إسرائيل، ويتجاوزون معها منطق التعاون إلى منطق التحالف لحماية أنظمتهم السياسية.
وفي غياب العرب عن الأزمة الكبرى التي تعصف بالنظام الدولي، ما يسمح بالاعتقاد بأن ما يجري بين روسيا وأوكرانيا ومعها الغرب لن تكون الأخيرة، فإن إسرائيل ترى أن الميدان مفتوح أمامها لمزيد من التغوّل على الشعب الفلسطيني وأرضه وحقوقه.
إسرائيل دولة انتهازية بامتياز، فهي في ضوء قراءاتها العميقة للتحولات الدولية، التي تشهد تراجع الولايات المتحدة، وتقدم الصين وروسيا فإنها لم تتوقف عن توسيع علاقاتها وشراكاتها مع الصين بالرغم من الانتقادات، وعدم الرضا الأميركي، وإزاء أزمة أوكرانيا وروسيا، تمتنع إسرائيل عن تقديم منظومة «القبة الحديدية» لأوكرانيا، بل وتطلب من روسيا المساعدة في إجلاء اليهود من أوكرانيا في حال اقتضى الأمر ذلك.
لا شكّ في أن إسرائيل تشعر بالقلق الشديد، والخوف من أن تفقد تحالفها مع أميركا والغرب إن هي ذهبت باتجاه روسيا أو نحو الحياد، أو تفقد اتفاقاتها الأمنية مع روسيا، وتضرر علاقاتها مع روسيا والصين في حال انحازت لأميركا.