الخيِّر والشرير..!!
مقالات

الخيِّر والشرير..!!

قلنا في معالجة سبقت إن "أنا حاج" لتيري هايز تنم عن محاولة طموحة لكتابة "رواية الروايات" ما أدى إلى ابتكار عدّة حبكات وحكايات و"جرائم" فرعية، في إطار حبكة رئيسة للحكاية والجريمة الأم. وتوقفنا عند "الحبكة" الرئيسة، التي ينبغي رصد ملامحها، الآن.
تتفرّع كافة خيوط الحبكة، وتداعياتها مِن، وتلتقي عند، التضاد بين فاعلين أساسيين هما "الخيّر" و"الشرير". وهذه تقنية شائعة يعرفها (خاصة في أميركا) كل من تلقى دروساً في فنون السرد الروائي، و"الكتابة الإبداعية". فعليك، دائماً، أن تخلق شخصيتين، أو واقعتين، أو فكرتين، على طرفي نقيض، لتصبح كلتاهما وسيلة إيضاح للأُخرى. لهذه التقنية، كما نعرف، دعائم لاهوتية، وأيديولوجية على مر العصور: الضوء والعتمة، الحلال والحرام، الخير والشر..الخ. تبدو الاستعانة بهذه التقنية منطقية، تماماً، ولا غنى عنها، في رواية تصدر عن قناعة بصراع الحضارات، فصراع كهذا لا ينشب بين متشابهين، بل بين قوى على طرفي نقيض.
يمثل هذا التضاد أصل الحكاية، "الحدوتة" meta-story كما يُقال بالإنكليزية. فعلى طرف نجد أميركياً لم يتورّع عن قتل رئيس له في عالم المخابرات تعبيراً عن الإخلاص لمهنة العميل السري، وحماية للأمن الأميركي. السيرة العائلية للمعني ملتبسة، تبنته عائلة ثرية، وعاش بأسماء مستعارة اقتضتها مهنة رجل الأمن، والتبس عليه الأمر حتى بعدما ترك الخدمة، فلم يعد للاسم الأصلي أهمية خاصة.
وعلى الطرف الآخر، نجد صبياً سعودياً أُعدم أبوه بقطع الرأس في ميدان عام، وقرر الانتقام من النظام. تنتقل الأم مع أولادها إلى البحرين حيث يتمكن إسلاميون، في جامع يرتاده الفتى، من تجنيده وإرساله للقتال في أفغانستان، ولم يكن قد تجاوز السادسة عشرة من العمر. وهناك يشتد عوده، يتعلّم فنون القتال، وتصبح خطته للثأر من قاتلي أبيه أكثر تعقيداً، فيطوّر فكرة للانتقام تقتضي الثأر من الأميركيين أولاً، لأنهم حماة النظام، وسر بقائه.
لذا، ينتقل، بأوراق مزوّرة إلى لبنان، ويلتحق بالجامعة لدراسة الطب (نقلة افتتاحية أولى)، وبعد التخرّج يعمل في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. (هنا يدخل الفلسطينيون على الخط)، ومن هناك ينتقل إلى غزة، التي تحكمها حماس، ويتزوّج امرأة فلسطينية من مخيم جباليا، وينجب منها طفلاً (يعاني من التوحّد، تموت الأم في قصف إسرائيلي). ويبدو أن الفلسطينيين، بما لهم من باع وذراع، صقلوا الكثير من مهارات السعودي.
تستهدف خطته للانتقام قتل ملايين الأميركيين بوباء الجدري، بعد تطوير سلالة منه لا تجدي معها اللقاحات المعروفة. لم يعد المرض شائعاً بعد حملات التطعيم الإجبارية في العالم، لذا لا يمكن العثور على الفايروس نفسه إلا في المعامل الحكومية ذات الاختصاص. لهذا الغرض، يقتحم المذكور مختبراً للحكومة السورية، قرب دمشق، للحصول على عيّنات من الفايروس واللقاح. (الواقع أن اقتحام المختبر، وقتل المسؤول عنه، يمثلان حكاية فرعية مكتملة الأركان داخل الرواية الأم). المهم، تنجح المهمة ويُجري، في شقته البيروتية، تجارب لتطوير سلالة جديدة.
ولكن التأكد من فعالية السلالة الجديدة يستدعي إجراء تجارب على البشر، شريطة ألا يكونوا من المسلمين. لذا، ينتقل إلى أفغانستان، ويطلب من أفغاني اهتم به ورعاه، في زمن الجهاد ضد الروس، اختطاف بعض "الكفّار". وهذا ما يحدث، "يحصل" على امرأة ورجلين (يمثلون جمعيات غير حكومية غربية جاؤوا لمساعدة الأفغان)، يحقنهم بالفايروس، ويتأكد من نجاح السلالة الجديدة بعدما فتك المرض بالرهائن، الذين ماتوا بطريقة مؤلمة ومُروّعة.
وبعد نجاح التجربة، ينتقل إلى ألمانيا في صورة لاجئ بائس جاء في موجة المهاجرين السوريين، ويعمل، هناك، عن طريق أشخاص تعرّف عليهم في مسجد (اختاره، وأختارهم، نتيجة تخطيط مسبق) في معمل لصناعة الأدوية، ليتمكن من تلويث شحنة من أدوية السعال، في طريقها إلى الولايات المتحدة، بالفايروس القاتل.
هذه هي "الحدوتة" في رواية هايز. سنلاحظ في معالجة لاحقة كيف يترجم كل ما فيها، بالسرد الروائي وتقنياته، ما يرد في تحليلات سياسية عن تاريخ وأيديولوجيا الظاهرة الجهادية، وتجلياتها الإرهابية، من الحاضنة الوهابية، إلى حقل الرماية والتدريب الأفغانيين، إلى شن الحرب على "العدو البعيد" سند "العدو القريب" وحاميه.
ويكفي، الآن، إضافة دلالة جديدة تلقي مزيداً من الضوء على الدعائم اللاهوتية والأيديولوجية لثنائية الخيّر والشرير، كما تجلت في الرواية المعنية. فالشر يوحي، دائماً، بشيء يقبع في أعماق من نوع ما (أعماق الإنسان، والظلام، والغابة، والمدينة، والبيت المهجور، والبحر.. إلخ). لذا، يصعب التعرّف عليه، أو رصد ملامحه. نحن لا نعرف ما هو الشر، بل نعرف ما ينجم عنه. أما الخير فهو عكس هذا كله، يسهل التعرّف عليه، ورصد ملامحه، حتى بأثر رجعي، ويمكن في أغلب الحالات التنبؤ بما قد ينجم عنه.
وفي سياق كهذا، يظل الشرير في الرواية شبحاً حتى المشهد الأخير، لا نعرف له اسماً، ولا نعثر له على ملامح يمكن رصدها والتعرّف عليها. أما الخيِّر فهو فعلى النقيض من هذا كله: واضح الملامح، الخارجية والداخلية، سواء تعلّق الأمر بقسمات الوجه، أو النيّة والسريرة.
وبما أن الخيّر، خاصة إذا كان أميركياً، يجب أن يتحلى، إلى جانب صفات القوّة البدنية، والشجاعة، بصفات عقلية عالية، أيضاً، ينبغي أن يكون الشرير ذكياً، وصعب المراس، وواسع الحيلة. فالضد يُظهر حسنه الضد، كما قالت العرب. ولكي لا أمارس دور المغفّل المفيد، هنا، أجد ما يبرر التذكير بصعوبة النجاة من إدراك أن الأوّل مجرّد صيغة روائية من خردوات أيديولوجية وسياسية، أما الثاني فلا يستحق التعاطف، مطلقاً. كلاهما صيغة مفتعلة في حرب حضارات وهمية. فاصل ونواصل.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.