الأزمة الأوكرانية: ماذا بعد؟
مقالات

الأزمة الأوكرانية: ماذا بعد؟

إذا كان المقصود «بماذا بعد» هو محاولة لقراءة أوّليّة لتطورات وتبعات وتداعيات الأزمة الأوكرانية، فإن هكذا محاولة تظل بمثابة «مجازفة» إلى حد معين، وذلك بالنظر إلى كون هذه الأزمة متواصلة، وتزداد تفاقماً وتوسعاً وامتداداً، والأهمّ من ذلك كله هو أنها ما زالت مفتوحة على احتمالات متعددة ومختلفة.
دعونا نحاول استشراف هكذا احتمالات بصرف النظر عن الصعوبات الكبيرة التي تعتري هكذا محاولة، والتي لا بدّ أن تعتريها في هذه المرحلة من مسار الأزمة.
الاحتمال الأوّل، (والترتيب هنا لا يعني أهمية أكبر، أو أولوية خاصّة) هو أن يكتفي الغرب بحزمة العقوبات التي أطلقها في اليومين السابقين، وأن تكتفي روسيا وتتوقف عند هذا الحد، ويصبح الجلوس إلى طاولة المفاوضات هو الخطوة المباشرة.
في هذه الحالة ستسير المفاوضات تحت ضغط العقوبات من جهة، وتحت تحول الاعتراف الروسي بالجمهوريتين إلى واقع مكرس من جهة أخرى. «مشكلة» هذا الاحتمال هو أنه يفضي بالضرورة إلى رزمة أو مفهوم الحل الأمني الشامل، والذي يفضي بالضرورة، أيضاً إلى الضمانات التي تطلبها روسيا بعدم انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، وعدم إقامة قواعد عسكرية غربية على أراضيها، وقد تصل المطالبات الروسية إلى وضع قيود على تسلحها.
الغرب حتى الآن يرفض هذا المفهوم ولا يرغب بالموافقة على هكذا شروط روسية بما فيها تلك الشروط الروسية حول دور أوكرانيا، ويرفض المفهوم الشامل للصفقة، وذلك لأن هذا المفهوم بالذات يعني بالنسبة للغرب أن الأمن القومي الروسي هو موضوع البحث الجوهري، وأن كل القضايا الأخرى ستتحول في الواقع إلى تفرّعات جزئية عنه، وهذا الاحتمال يبدو صعباً للغاية في الواقع القائم.
أما الاحتمال الثاني فهو أن المفاوضات إن جرت ستحصر في عدم تمدد القوات «الانفصالية» للسيطرة على الحدود الإدارية الكاملة، والتي تزيد على 60% من المساحة التي تقع تحت سيطرتهم حتى الآن، مقابل التزام أوكرانيا بعدم التقدم نحو المناطق التي يسيطر عليها المقاتلون الانفصاليون، ولذلك يبقى الحال على ما هو عليه. بمعنى آخر يتكرّس الاعتراف الروسي، ويتوقف التمدد، وتتحول خطوط وقف إطلاق النار إلى حدود مؤقتة لكي يصار إلى البحث عن حلول أكثر شمولية، وليس إلى مجرد هدنة ميدانية، وهدنة «سياسية» مؤقتة.
أما الاحتمال الثالث هو أن لا يوافق الغرب على كل ذلك، وأن يرفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وأن يشترط الغرب سحب الاعتراف الروسي، أو تجميد وتعليق هذا الاعتراف، وهو الأمر الذي ترفضه روسيا، ما سيؤدي إلى احتدام معارك ضارية تهدف من خلالها أوكرانيا إلى خلخلة دفاعات «الانفصاليين»، وتشتيت قواتهم العسكرية أملاً في استعادة الجمهوريتين، في حين أن هذه القوات ستسعى بكل ما لديها من قوة ودعم روسي للوصول إلى الحدود الإدارية الكاملة، خاصة من القوات الروسية.
وحينها فقط يمكن أن تجلس أوكرانيا، ومن خلفها الغرب إلى طاولة المفاوضات، وقد تكون هذه المعارك هي مفتاح المفاوضات للحل الأمني الشامل، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعزز من الفرص الروسية لهذا الحل.
خلاصة الأمر هنا أن الأزمة الأوكرانية تسير بسرعة هائلة نحو التصعيد الكبير، ونحو جولات عسكرية ساخنة قد تجبر روسيا على زيادة تدخلها المباشر ميدانياً لضمان السيطرة الكاملة على الحدود الإدارية لكامل إقليم الدمباس.
دول أو دويلات البلطيق تشعر أن مصيرها أصبح مهدداً بعد إعلان الرئيس الروسي الأخير، وستشعر بأعلى درجات التهديد إذا ما تم «تحرير» الإقليم بأكمله من قبل «الانفصاليين»، وسيشعر الغرب كله، وخصوصاً البلدان الأوروبية الشرقية التي كانت تحت المظلة السوفياتية، أن على حلف شمال الأطلسي أن يختار ما بين المفاوضات الجدية مع روسيا، أو انتظار انهيار دول البلطيق وبعض دول شرق وجنوب شرقي القارة الأوروبية، أو نشر معظم قواته على هذه المساحة الكبيرة بما في ذلك قطاعات كبيرة من القوات الأميركية المتموضعة، الآن، في ألمانيا وإيطاليا واليونان حتى ولو بأعداد رمزية في البدايات، لكن هذه القوات ستضطر إلى التموضع في دول البلطيق وبعض بلدان أوروبا الشرقية لاحقاً، ناهيكم عمّا سيكون عليه الحال في أوكرانيا التي لا تستطيع استقدام هذه القوات الأطلسية، وليس بوسع الأطلسي نجدتها عسكرياً إلّا بطرق غير مباشرة، ما يجعل مصيرها كله في مهبّ الريح.
والخلاصة الثانية هنا هي أن القيادة الروسية قد حسبت بدقة كل هذه الحسابات وجهّزت نفسها لكل التبعات، لأنها صاحبة المبادرة الاستراتيجية، والغرب لا يملك كما هو واضح سوى استراتيجيات الاستفزاز والابتزاز وانتظار الأفعال الروسية ليرد عليها بالعقوبات لأنه في الواقع لا يملك سواها.
المبادرة الاستراتيجية في يد الكرملين لأن أوكرانيا هي أكبر دولة على حدود روسيا، ولأن أوكرانيا لديها قاعدة تحتية متينة للسلاح النووي، حتى ولو أنها لا تملك منه، الآن، ما يهدد روسيا، كما أن أوكرانيا قبلت لنفسها دور الأجير والمأجور في خدمة الغرب ضد المصالح الروسية التي تدركها أوكرانيا أكثر من غيرها، ولو كانت أوكرانيا تلعب مثل هذا الدور بعيداً عن الإضرار المباشر بالأمن القومي الروسي لما كان هناك أي مشكلات أصلاً.
الغرب مأزوم استراتيجياً في الواقع، وهذه الوحدة الشكلية التي يتظاهر بها هي كاذبة ومخادعة. لماذا؟
لأن كسر الحلقة الروسية كهدف لهذا الغرب لن يتأتّى سوى بحرق وتدمير أوكرانيا، وتحويلها إلى أشلاء هزيلة، والشعب الأوكراني هو الضحية الأولى للصراع، والغرب يعرف ذلك حق المعرفة.
كما أن هذا الغرب لم يتعلّم من دروس التاريخ شيئاً.
ماذا فعلت العقوبات ضد روسيا؟
وماذا فعلت ضد إيران؟
وماذا كانت قد فعلت ضد كوبا؟
وماذا تفعل ضد الصين، وماذا فعلت ضد كوريا الشمالية؟
النتيجة التي لم يفهمها الغرب حتى، الآن، أن العقوبات تعيق، وتؤثر وتفقر وتؤخّر ولكنها لا تغير إلّا إذا كانت البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية هشّة وقابلة للكسر.
العقوبات ليست رداً استراتيجياً مناسباً لأنها لا يمكن أن تشكل ردعاً استراتيجياً، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن هذه العقوبات ليست بدون ثمن على الغرب نفسه.
فإما أن يتعقلن الغرب وإما أن الأزمة الأوكرانية ستفجر أكبر أزمة طاقة في التاريخ الحديث، وهي أزمة ستدفع أوروبا ثمنها قبل أي طرف آخر. كما أن الأزمة الأوكرانية ستولّد أزمة خانقة في مجال رغيف الخبز لدولٍ كثيرة في البلدان النامية، ما يهدد استقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي على حدٍ سواء.
ألم تدفع أوروبا فاتورة الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ بالإضافة إلى بعض الدول الآسيوية؟
ألم يكن من نتائج الحروب أن استولت الولايات المتحدة على العالم وتربّعت على عرشه وأحكمت سيطرتها على أوروبا الغربية نفسها؟
فمتى تتعقلن أوروبا وتفهم أن لها مصالح مشتركة خاصة، لا يجوز أن تفرّط بها مرة أخرى كانت راغبة في مغادرة الحقبة الاستعمارية والتخلّي عنها؟!

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.