عالم جديد متعدد الأقطاب يتشكل
مقالات

عالم جديد متعدد الأقطاب يتشكل

لا أحد يحب الحرب ولا أحداثها القاسية الأليمة، فهي ليست عرضا سينمائيا نتفرج عليه فنتحمس لهذا البطل أو ذاك، وأكثر من يعرف فظاعة الحروب هو من كان مثلنا نحن الفلسطينيين ممن ذاق ويلاتها قتلا وتدميرا وتشريدا ، كما أن مسؤوليتنا كشعب تحت الاحتلال تحتم علينا أن ننحاز إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها وأن نرفض حل المشكلات الدولية بالقوة المسلحة، ولكن مسؤوليتنا أيضا أن نعرف بدقة ما يجري فلا ننساق إلى تغليب عواطفنا ورغباتنا ولا للدعايات المغرضة وخاصة الغربية منها.

 من خلال إطلالة سريعة على الصحف ومواقع الأخبار والفضائيات الدولية، يمكن لنا أن نخرج بمجموعة من الاستنتاجات الواضحة والسريعة، والتي من شأنها أن تنعكس على خريطة العالم بأسره، وعلى مواقع كافة القوى الدولية والإقليمية والمحلية التي راح كل منها يتحسس رأسه، لكي يزن مواقفه بحذر شديد.

أبرز الاستخلاصات هي أن عالم ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية ليس كقبل هذا الحدث العالمي، فثمة نظام دولي جديد يتشكل محل النظام الأحادي القطبية الذي ساد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات حتى الآن، وملامح تشكله ليست وليدة الصراع في شرق اوروبا، بل هي نتاج التطورات الصناعية والثورات العلمية والتكنولوجية التي أفضت إلى بروز أقطاب عالمية جديدة ومؤثرة أبرزها العملاق الصيني الذي يتوقع له أن يكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم قبل العام 2050، ومن بينها أيضا العملاق الهندي والعملاق العسكري والجيوسياسي الروسي، وعدد من القوى المتوسطة مثل المكسيك والبرازيل واندونيسيا، بالإضافة إلى قوى مركزية بالنسبة لمحيطها الإقليمي مثل باكستان وتركيا وإيران، إلى جانب الاتحاد الأوروبي الذي ما زال عاجزا عن تقديم نفسه كقطب مستقل عن الولايات المتحدة. والمؤسف في هذا السياق أنه لا توجد دول عربية مرشحة للعب أدوار مركزية حيث أن اقصى ما تطمح له هذه الدول هو أن تختار لها فلكا لكي تدور فيه، بينما تسعى إسرائيل إلى فرض نفسها كقوة مركزية في إقليمنا على الأقل.

يعزز هذا الاتجاه مجموعة من الأزمات الداخلية والخارجية الأميركية، وافتقاد سياسات واشنطن إلى الحصافة والنزاهة والمسؤولية الأخلاقية ما أدى إلى المساس بشرعية قيادتها كقوة وحيدة للعالم ( الظاهرة الترامبية وصفقة القرن والموقف من قضية الشرق الأوسط كلها أمثلة على ذلك) وأدخلها في نزاعات مستمرة مع أقرب شركائها وجيرانها وحلفائها، وهذا العالم الذي يتشكل هو في الأساس قوى اقتصادية وبشرية قبل ان تكون عسكرية، وقد شهدنا على مدار السنوات الماضية مواجهات أميركية صينية علنية وسرية، أبرزها محاولة حرمان الصين من الاستفادة من التكنولوجيا الأميركية، وفرض حظر على مئات السلع والمنتجات الصينية، ومحاولات الحد من تمدد النفوذ الصيني في افريقيا وآسيا، علاوة على محاولات التحرش العسكري بالصين في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادىء، وصولا إلى محاولات تحريك ملفات داخلية مثل حقوق الإنسان لتبرير استمرار العقوبات على الصين أو لتوسيعها. كل هذه المحاولات للحد من تنامي دور الصين باءت بالفشل، تضاف إلى فشل أميركا على اثر تدخلاتها العسكرية الخائبة في العراق وافغانستان، وقبل ذلك في الصومال ولبنان، ثم فشل تطويع إيران على مقاس الشروط الإسرائيلية في الملف النووي حيث بات توقيع الاتفاق الجديد بما يلبي المصالح الإيرانية وشيكا.

ومن الدروس المباشرة للحرب في أوكرانيا، هو أن لروسيا كدولة عظمى مصالح دولية مركزية في محيطها راعتها الدول الكبرى عند رسم حدود أوروبا وبعد نتائج الحربين العالمين الأولى والثانية، وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حين جرى الاتفاق أكثر من مرة على عدم توسع حلف الناتو شرقا، واللافت أن الولايات المتحدة نفسها تقر بحسابات روسيا ومصالحها كما جرى في الملف السوري، كما أن هذه المصالح راعتها دول مجاورة لروسيا مثل السويد وفنلندا فامتنعت تاريخيا عن الانضمام لحلف شمال الأطلسي، وهو ما تجاهلته القيادة الأوكرانية الحالية التي يبدو أنها اغترت بالتطمينات الغربية، والتي سرعان ما تكشف بطلانها في اليوم الأول من الحرب.

أقسى ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون ضد روسيا عدا التنديد والشجب، هو فرض عقوبات انتقائية، لأن العقوبات الشاملة تضر بمتخذيها أيضا، ولذلك فإن العقوبات الجديدة التي فرضتها أميركا استثنت أهم وأخطر ما يمكن ان يمس بروسيا وتحديدا قطاعات الطاقة وآلية تحويل الأموال  للمبادلات الدولية، وسبق للغرب أن فرض على روسيا عقوبات مشابهة بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، ومن الواضح أن روسيا احتاطت تماما لكل هذه العقوبات المتوقعة، ولم يكن أمام الولايات المتحدة سوى الإعلانات الاستعراضية العديمة الفائدة عن فرض عقوبات على الرئيس فلاديمير بوتين شخصيا وعلى عدد من القادة الروس! وهذه الحقائق تؤكد ان لا أميركا ولا الغرب لديه أدنى استعداد لخوض حرب فعلية نيابة عن غيره.

أكثر الأطراف حرجا في اتخاذ موقف من الحرب هي إسرائيل التي تتمتع بعلاقات متميزة مع كل من روسيا واوكرانيا، ولكنها في نهاية المطاف ترتبط بعلاقة عضوية مع الولايات المتحدة ولا يمكن لها أن تخرج عن طورها إلا وفق هوامش محدودة ومسموح بها أميركيا ( سبق للولايات المتحدة أن تدخلت لإبطال صفقة إسرائيلية مع الصين لإدارة ميناء حيفا مع أنها تسمح لإسرائيل بتبادل تجاري بمليارات الدولارات مع كل من الصين وروسيا).

ومع أن إسرائيل محرجة ولكنها يمكن ان تستغل الاضطراب العالمي لتنفيذ مخططات توسعية واستيطانية من الصعب أن تقدم عليها في الأحوال العادية، وهو ما يملي على جميع القوى والمؤسسات الفلسطينية الاحتياط لمثل هذه الخيارات وإعادة التركيز على ترتيب البيت الداخلي لتحصينه من تأثير اية تطورات دولية وإقليمية مؤثرة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.