هل من مبرر لغزو أوكرانيا؟
منذ بداية الاحتلال الروسي لأوكرانيا وأنا أراجع تجربتي الشخصية، وتجربة جيلي منذ العام 1967 مع الاحتلالات العسكرية. كانت البداية مع احتلال 67 الاستعماري الإسرائيلي الذي ما زال يجثم على الأرض، ويسيطر على شعب بمنطق غطرسة القوة المعزز بأيديولوجيا دينية أسطورية، والمتواطئ معه من النظام الدولي بزعامة أميركا. وكانت تجربتي الثانية مع احتلال جيش النظام السوري للبنان عام 1976، والذي جوبه بمعارضة تحالف الثورة الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية التي سمّت ذلك غزواً وقاومته عسكرياً وسياسياً ثم تعايشت معه، وكان له وقع الصدمة عليّ؛ كونه أتى من نظام عربي يطرح شعارات تحرير جميع الأراضي التي تحتلها إسرائيل، في الوقت الذي حظي احتلاله للبنان بتأييد أميركي وتمويل خليجي وموافقة إسرائيلية، وبدعم وتأييد القوى الفاشية اللبنانية. الاحتلال الثالث الذي عايشته هو احتلال الجيش السوفياتي لأفغانستان عام 1979، وقد حظي هذا الاحتلال بتأييد ودعم كل اليساريين وأنا واحد منهم. الاحتلال الرابع كان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 والذي أدى إلى هزيمة منظمة التحرير وإخراجها من لبنان. الاحتلال الخامس كان احتلال صدام حسين للكويت في العام 1990. الاحتلال السادس هو احتلال العراق عام 2003، الاحتلال السابع هو احتلال وتقاسم سورية من قبل تركيا وإيران ومليشياتها وروسيا وأميركا وإسرائيل. منذ العام 2012 وحتى يومنا هذا، بأثر رجعي، كان موقفي الرافض للاحتلالات صحيحاً، عدا الاحتلال السوفياتي لأفغانستان واحتلال صدام حسين للكويت، انطلق تأييدي الخاطئ للاحتلالين من منطلق الانحياز إلى معسكر الثورة العالمي في احتلال أفغانستان، وانحيازي ضد دول البترودولار الخليجية التي تنتمي أنظمتها لمعسكر الثورة المضادة العالمي، في احتلال الكويت. بأثر رجعي أعترف بخطئي في الانحياز للاحتلالين، وأعد بألا أؤيد الاحتلالات بعد تلك التجربة المريرة مع كل أنواع الاحتلالات.
أقدر أن أغلبية الشعب الفلسطيني تبحث عن منقذ يحارب عدوها ويدعمه، أخذاً بنظرية "عدو عدوي صديقي" التي بطل مفعولها في علم السياسة الحديث. وللحركة الوطنية الفلسطينية باع طويل في هذا المضمار، فقد عوّلت قيادتها في الحرب العالمية الثانية على دول المحور؛ على أمل رفع الظلم والقهر الذي فرضه الاستعمار البريطاني منذ وعد بلفور وصولاً إلى النكبة. وعوّلت القيادة على صدام حسين لمقايضة احتلال الكويت باحتلال الأراضي الفلسطينية، وانحازت مع معارضيها للأنظمة المستبدة التي حاربت شعوبها وقمعتها وسمّت الانتفاضات الشعبية العربية مؤامرات وربيعاً أسود. كل ذلك يُحتسب من الأخطاء الكبيرة التي دفع الشعب الفلسطيني ثمناً فادحاً بسببها، ومن المفترض عدم تكرارها.
نتفق على أن نظام القطب الواحد قدم نموذجاً لغطرسة القوة والحروب التي ألحقت ضرراً فادحاً بالشعوب، وإن هذا النظام يساند أنظمة مستبدة وفاسدة، ويتغاضى عن شعاراته حول حقوق الإنسان طالما كان الربح والمزيد من الربح متيسرَين، ومن نماذج ذلك اجتياح العراق وليبيا والتدخل في سورية، وصرف النظر عن الحرب في اليمن، وتزويد دول الخليج المشاركة في الحرب بالأسلحة. والأنكى مساندة النظام الدولي الفعلية للاحتلال والاستيطان الإسرائيلي ووضع دولة الاحتلال فوق القانون الدولي، البعض يعارض الاحتلال بالأقوال وبمساعدات مالية من منطلق إغاثة إنسانية، أو من منطلق الحفاظ على الأمن والاستقرار لمصلحة دولة الاحتلال. ضم مدينة القدس ونقل السفارة الأميركية إليها، وضم الجولان وحصار قطاع غزة، وأزمة "الأونروا" المالية، والتطبيع مع الاستيطان، وصرف النظر عن جرائم الحرب الإسرائيلية، وحماية دولة الاحتلال من أي مساءلة عن هذه السياسات، تعكس قبح هذا النظام من أي زاوية نظر فلسطينية.
هذه السياسات تفسر الانحيازات الفلسطينية لحرب بوتين وغزوه أوكرانيا، والتفسير في كل الأحوال لا يعني تبرير الانحياز. صحيح أن دول أوروبا الشرقية انضمت إلى الاتحاد الأوروبي، وكان هذا بمحض إرادتها ولم تجبر على ذلك، غير أن انضمام دول أوروبا الشرقية لحلف الناتو بعد انهيار حلف وارسو لم يكن مبرراً. الشيء نفسه ينطبق على السعي لانضمام جمهوريات البلطيق وأوكرانيا وغيرهما، وعلى استمرار العسكرة مع انتهاء الحرب الباردة. ورغم ذلك لا يوجد خطر فعلي يهدد الأمن الروسي. التهديد ينحصر في تغلغل النفوذ الاقتصادي والسياسي والثقافي الغربي، بعد أن امتنع الناتو عن ضم أوكرانيا وامتنع الاتحاد الأوروبي عن ضم أوكرانيا له، ومن غير المنطقي الرد على هذا التغلغل باحتلال أوكرانيا ومن قبلها القرم. الصراع على النفوذ يتم في إطار التنافس والمباراة الاقتصادية، ولطالما اعتمدت روسيا علاقات السوق الرأسمالية وتشارك في منظوماتها. ويحضر هنا مثال الصين التي تفوقت اقتصادياً في إطار علاقات السوق وأصبحت منافساً إستراتيجياً للولايات المتحدة، وتعتبر بالمقاييس الأميركية العدو رقم واحد، في الوقت الذي لم يتم التعامل مع روسيا المنافسة عسكرياً كعدو، بل شطبت في العام 2019 من خانة العدو. لسنا أمام خيار بين نظام اشتراكي يدعم الشعوب وحركات التحرر والدول المستقلة وغير التابعة، ونظام رأسمالي مع الأنظمة وضد الشعوب وتحررها واستقلالها. نحن أمام الاختيار بين الناتو وروسيا، ولكل طرف أطماعه ومصالحه التي هي أبعد ما تكون عن مصالح الشعوب. وإذا كان النموذج الأميركي ساطعاً في وضوحه، فإن روسيا غير واضحة للرأي العام. رغم تقديمها لنماذج ساطعة كقواعدها العسكرية في سورية ودعمها للنظام الديكتاتوري ورفض أي محاولة لإصلاحه، وتدخلها في ليبيا عبر دعمها للجنرال حفتر، وعلاقات الهيمنة على جمهوريات آسيا الوسطى وجورجيا وبيلاروسيا، وتوافقها مع دولة الاحتلال في سورية. ما هو مؤكد أن روسيا بوتين لا مكان في سياساتها لمصالح الشعوب، ورغم ذلك يتم بناء وهم بأن روسيا قطب دولي داعم لنا وللشعوب العربية، هذا محض خيال للباحثين عن منقذ. قد تكون روسيا أقل خطراً وضرراً في المسألة الفلسطينية، وهي بالفعل كذلك، لكن الطبيعة المستبدة المطلقة لنظام بوتين الذي جدد رئاسته للعام 2036 بغطاء استفتاء شعبي يجعل منه خطراً على حريات شعوب الاتحاد الروسي والشعوب المجاورة، خاصة أوكرانيا. إن خطابه الذي مهد لغزو أوكرانيا نفى عن 44 مليون أوكراني مقومات القومية، بينما اعترف بإقليمين ثانويين كجمهوريتين مستقلتين. بقي القول: إن التنكر لحق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره، وتأييد إعادته للقبضة الروسية بالقوة المسلحة غير مقبول. لا يمكن تبرير التنكر لحق أي شعب، والشعب الأوكراني راهناً، بذريعة مجابهة خطر الناتو، فلا يجابه الناتو بقبول إخضاع الشعوب للديكتاتورية والاستبداد في أبشع صورهما وأشكالهما. السياسة في عرف الشعوب التواقة للحرية أخلاق وعدالة، وهي عكس السياسة بالنسبة للأنظمة والسلطات، أعمال قذرة. حرب بوتين ليست مشروعة، وأنا مع الشعب الأوكراني. ولا يعقل من الذين يعانون من أطول احتلال إسرائيلي تأييد احتلال روسيا لأوكرانيا وإخضاع شعبها بقوة السلاح.