النفايات.. تهديد لاستدامة الحياة
تتراكم النفايات في فلسطين وتُعالج بطرق تُهدّد استدامة أشكال الحياة فيها. فعلى أطراف المدن والقرى تنتشر أكياس البلاستيك وعلب العصير الفارغة والأوراق والكمامات الطبية والملابس البالية. وتُشَاهد هذه النفايات ملقاة أيضاً على مداخل المطاعم والمدارس وفي الحدائق الحرجية والشوارع. أما الأحياء السكنية فتمتلأ بحاويات النفايات الملقى على جانبَيها أكياس القمامة منبوشة من قبل الحيوانات الجائعة. لقد أصبح من المألوف، للأسف، مُشاهدة الناس وهم يقذفون بالنفايات من السيارات أثناء تنقلهم، وأن نرى أكواب العصير والقهوة البلاستيكية الفارغة ملقاة في مقاصف الجامعات وساحاتها وبين أروقتها. وتتفاقم الأزمة في وسط المدن والأسواق حيث تتكدس القمامة بشكل ملحوظ مخلفة روائح كريهة وشوارع لزجة بفعل عصارتها السوداء. تستفحل الظاهرة فتصل لمداخل مباني المؤسسات، بل وفي داخلها، حيث تعج بأعقاب السجائر أيضاً. باختصار، غدت ظاهرة إلقاء النفايات في كل مكان جزءاً من الثقافة تمارس بشكل فردي ومجتمعي بلا رقيب أو رادع.
أساس هذه الظاهرة، التي تشوّه جمالية المكان وتلوث البيئة وتضر بصحة الإنسان، هو عدم الوعي المجتمعي الناجم عن قصور في التنشئة البيتية وعبر التعليم بجميع مراحله. وتعود الأسباب أيضاً إلى التراخي في تطبيق القانون ونقص في الإجراءات الناظمة، وعدم تنفيذ الخطط الوطنية بفعالية.
حسب إحصائيات 2019، تنتج فلسطين يومياً حوالى 4333 طناً من النفايات، يأتي 1835 طناً منها من الضفة الغربية و716 طناً من غزة. تُجمَع النفايات في ما يزيد على 160 مكباً منتشرة بطريقة عشوائية. تُشكّل هذه المكبات غير المسوّرة بؤراً وبائية تترعرع عليها الحشرات والقوارض الناقلة للميكروبات. وفي ظل عدم توفر إمكانيات معالجة النفايات بطريقه مستدامة، تُحرقُ النفايات في الهواء الطلق أويتم طمرها دون مراعاة متطلبات إدارة الطمر السليم. تنتج عن الحرق غازات الميثان والأمونيا وأكاسيد الكبريت والكربون السامة التي تسبب أمراضاً تصيب الجهاز التنفسي والجلد والعيون بشكل مباشر، كما تسبب أمراض القلب والسرطان بشكل غير مباشر. بفعل تلوث البيئة في فلسطين، غدت عِلّاتُ الانسداد الرئوي المزمن والسعال والتهابات الحلق والربو شائعة تهدد الوجود الفلسطيني. هذا وتُخفض المكبات العشوائية من قيمة الأراضي المقامة عليها.
تتسبب النفايات المطمورة بطرق غير سليمة بنشر أمراض التيفوئيد والكبد الوبائي. فمع مرور الزمن تتسرب عصارة هذه النفايات إلى المياه السطحية، الشاملة للينابيع والأودية وآبار الجمع، فتلوثها بالمواد العضوية وبقايا المواد الكيماوية والمبيدات، ومخلفات المصانع والبناء والمستشفيات. هذا وتؤثر تلك النفايات والمياه العادمة سلبياً على جودة التربة فتلوث النباتات وتضر بمن يتغذى عليها.
في معرض الحلول القائمة، تشير الإستراتيجية الوطنية 2017-2022 إلى ضرورة توفير أربعة مكبات رئيسة في الضفة الغربية لإدارة النفايات بطريقة مستدامة تحافظ على بيئة نظيفة وتستجيب لحقوق المواطنين الصحية. بعد مرور خمسة أعوام ما زال هذا الهدف غير محقق. فعلى الرغم من بدء العمل في مكب زهرة الفنجان، الواقع قرب جنين، منذ العام 2007، فإن التجمعات السكنية حوله ما زالت تشكو من آثاره السلبية على البيئة والصحة، مشيرة إلى ضعف الأداء في معالجة النفايات فيه. وقد يعود ذلك لكونه يعالج نفايات أكثر من القدرة الاستيعابية التي صُمّم من أجلها مترافقاً مع تجاوز السقف الزمني لصلاحيته. وبعد مرور 25 عاماً على إنشاء هذا المكب، ما زالت أسباب قصوره قيد المعالجة من الحكومة. أما مكب المنية الواقع في منطقة بيت لحم، فقد بُدء العمل فيه عام 2014 ويتشارك مع مكب زهرة الفنجان بمشاكله. هذا ولم يتم البدء في المكبات المخطط لها في منطقة رام الله والقدس.
في غزة، تتوزع النفايات الصلبة على ثلاثة مكبات: مكب جحر الديك الذي يستوعب أكثر من نصفها، ومكب وادي السلقا الواقع شرق دير البلح، ومكب صوفا الفخاري في منطقة خان يونس. هذا وتنتشر في غزة حوالى 1800 حاوية تشكل مع المكبات مكاره صحية وبيئية ذات آثار كارثية.
لا شك في أن تعدد الجهات المسؤولة عن النفايات، كالبلديات والمجالس القروية ووزارة الصحة والحكم المحلي، يوسع من الفجوة ما بين التخطيط والتنفيذ. ولا شك في أن غياب قوانين تردع المواطنين من إلقاء النفايات في كل مكان وتلزمهم بفرز النفايات في بيوتهم تعزز الثقافة السلبية تجاه نظافة فلسطين.
إن استمرار تبني فلسطين لنموذج الاقتصاد الخطي المستند إلى زيادة الاستهلاك سيفاقم من أزمة تكدس النفايات. كما أن استمرارها في معالجة النفايات بالطمر والحرق الهوائي لن يجدي نفعاً ولن يحقق الرؤية الفلسطينية بمستقبل مستدام. يكمن الحل في التحوّل إلى معالجة النفايات بالتدوير وتوليد الطاقة منها، ما يعني الانتقال إلى الاقتصاد الدائري. سيساهم هذا الانتقال بتخفيض حجم النفايات في فلسطين وتقليل تكاليف معالجتها. وبالإضافة للجدوى البيئية والصحية، سيتيح التدوير الفرصة لاستخراج المواد الخام من النفايات وتصنيعها وتسويقها وإدرار الربح وزيادة حجم التشغيل واستخدام الطاقة النظيفة المُولّدة.
تتطلب عملية التدوير فرز النفايات التي يجب أن تتم في البيوت، قبل جمعها من البلديات ثم إرسالها إلى شركات التدوير الخاصة. تساهم عملية الفرز في البيوت بتغيير الثقافة السائدة نحو النفايات وتقلل من التكاليف، وتحد من إلقاء النفايات في كل مكان، خاصة إذا ما ترافقت مع تغريم المخالفين. بشكل عام تُشكّل الأطعمة أكثر من نصف المخلّفات في فلسطين، ومن خلال التدوير يتم تحويلها إلى سماد عضوي. ويشكل البلاستيك، غير القابل للتحلل وذو الخطر الكبير على صحة الإنسان، أكثر من سدسها، ويمكن تدويره لخاماته الأولية ومن ثم تصنيعه لاستخدامات متعددة. أما الباقي فيتوزع على الورق والمعادن كالحديد والنحاس والألمنيوم، والتي يمكن فرزها وتدويرها لصناعة الكرتون والطوب واستخراج المعادن.
يوجد في فلسطين العديد من مبادرات التدوير الفردية والمؤسساتية المبعثرة وضعيفة الجدوى. إلا أنها تمثل قاعدة للانطلاق إذا ما توفرت شروط استدامتها مصحوبة بإطلاق مبادرة حكومية استثمارية ناظمة وراعية للجهود. تضم المبادرات الحالية: حملات تنظيف وتوعية تطوعية موسمية تنفذها مؤسسات المجتمع المدني بالتعاون مع القطاع الخاص، مبادرات شبابية فردية لفرز المخلفات والتدوير المحدود مثل إنتاج السماد العضوي، مشاريع ريادية في مجال إطالة عمر الأجهزة وتصميم التطبيقات التوعوية وتحفيز الفرز والتجميع والتدوير، شركات تجارية محدودة العدد والقدرة الإنتاجية لتدوير الورق والكرتون والبلاستيك ومخلفات البناء، مبادرات من القطاع الخاص لتدوير نفاياته كما هو الحال في بنك فلسطين. وعلى سبيل المثال، قاد 12 مهندساً في غزة مبادرة «سلة بلدنا» التي تستهدف تجميع وتدوير النفايات من 20 برجاً سكنياً، وتعمل من خلال تطبيق إلكتروني يسهل تواصل السكان بفريق المبادرة لجمع القمامة. وتوفر مبادرة «البحر إلنا»، بدعم من مركز القطان والوكالة السويسرية، مكاناً نظيفاً للاستجمام على شاطئ غزة، وتقوم بتدوير النفايات واستخدامها في المكان.
في سياق توليد الطاقة، تخطط شركة في غزة لتحويل النفايات إلى طاقة للحصول على 31 ميغاواط كهرباء.
من المبادرات الناجحة عربياً، تعتبر محطة «بيئة» في الشارقة من أكبر محطات توليد الطاقة من النفايات، وقد انطلقت المحطة بكامل إنتاجها هذا العام 2022 لتعالج 300 ألف طن من النفايات سنوياً، وتنتج 30 ميغاواط لخدمة 28 ألف منزل. أعادت المحطة تدوير أكثر من 500 ألف طن في أول سبعة أشهر من العام الماضي، وحققت هدف التوقف عن الردم والوصول إلى صفر نفايات. تتعاون المحطة مع مصر والسعودية في التخطيط لتوليد الطاقة في كلّ منهما.
عالمياً، تحتل ألمانيا المرتبة الأولى ضمن قادة منظمة التعاون الاقتصادي في إعادة التدوير حيث بلغت نسبته 65%. تلتها كوريا 59%، ثم سلوفينيا والنمسا 58%، وتلتها بلجيكا 55%، فسويسرا 51%.
بلغت نسبة التدوير في فلسطين 1% في العام 2017، بينما بلغت 18% في إسرائيل.
تقع مسؤولية إدارة النفايات بالدرجة الأُولى على الحكومة. والمأمول أن تقوم بمراجعة نظام إدارة النفايات لزيادة فاعليته، فيخفف من كميات النفايات ومن الاعتماد على المرادم، ويمنع الحرق في الهواء الطلق. ولزيادة نسبة التدوير، من المهم تصميم مبادرة مركزية استثمارية ترعى الجهود الواعدة. وفي السياق الثقافي، حبذا لو أعادت وزارة التربية والتعليم تدريس مبحث البيئة والصحة. ولاستدامة حملات التنظيف من الضروري تنسيق الجهود بين مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص. فهل هذا ممكن؟