إرهاصات النظام العالمي متعدد الأقطاب
لا يبدو «جو النعسان» بعد دخوله البيت الأبيض بعام أقل تهورا أو أكثر تعقلا من سلفه دونالد ترامب، رغم أنه قد تعدى في العمر الثمانين سنة، وإذا كان ترامب قد بدأ عهده بإطلاق التهديدات يمينا وشمالا، فإن جو بايدن بدأ عهده بما هو أخطر، ففي نقلة واحدة بما يشبه لعبة الشطرنج السياسية العالمية، قام بتحريك البيدق الأوكراني، ليقول للروس: كش ملك، ما كان من شأنه أن يفتح باب خطر يهدد البشرية بأسرها.
وفيما الحرب العسكرية تدور رحاها على الأرض الأوكرانية بين الروس والأوكران، فإن حربا أخرى أشد ضراوة وقسوة ترافقها، وهي على كل حال سمة حروب ما بعد انتهاء الحرب الباردة، ونعني بها الحرب الاقتصادية، فجملة القرارات الأميركية المتتابعة ضد روسيا، تؤكد على أن البيت الأبيض كان قد أعد العدة لهذه الحرب جيدا، وأن القرارات التي اتخذها حتى الآن، ليست مرتجلة ولا ردة فعل آنية على العملية العسكرية الروسية التي بدأت ضد أوكرانيا منذ أكثر من أسبوع.
فلم يكن قرار منح الضمانات الأمنية، ولا قرار الموافقة من عدمه على عضوية أوكرانيا في حلف الناتو بيد الدولة الجارة لروسيا، بل بيد الولايات المتحدة، وما يؤكد أن كل ما حدث بين الجارتين السوفييتيتين السابقتين إنما هو من تخطيط وترتيب البيت الأبيض، هو أن أوكرانيا ليست عضوة في الاتحاد الأوروبي حتى، لتطلب عضوية الناتو، فقد كان الأولى أن تطلب عضوية الاتحاد الأوروبي قبل عضوية الناتو، لكن طلب عضوية الناتو، مع كونها على تماس حدودي، بل في حالة تداخل جغرافي وديموغرافي مع روسيا، ومع ما تملكه من تكنولوجيا نووية، يعني أن عضويتها تلك تهدد الأمن الروسي مباشرة.
وأوكرانيا ما هي إلا بيدق في مواجهة طاحنة بين روسيا وأميركا، وهذه المواجهة هدفها الأميركي هو تحجيم روسيا واستنزاف أوروبا، لإضعاف قطبين عالميين، ينموان بشكل متصاعد منذ ثلاثة عقود، بعد أن كانا في الجيب الأميركي، صارا اليوم أكثر قوة وأشد عزما على التحرر من تبعية أميركا، بما يعني وضع حد للنظام العالمي أحادي القطب الذي نشأ بعد انتهاء الحرب الباردة.
لقد كان حجم التبادل التجاري بين روسيا وأوروبا كبيرا وقد تزايد ونما خلال العقود الماضية، مع افتقار أوروبا للطاقة من النفط والغاز، وتوفرهما في روسيا، ومع حاجة روسيا للتقدم الصناعي والبضائع الأوروبية. وفرض العقوبات على روسيا يعني، قطع خيوط هذا التشابك الاقتصادي بين القطبين العالميين المنافسين لأميركا، وتحول وجهتيهما باتجاهات أخرى، فأوروبا ستضطر للتفكير في مصادر طاقة بديلة، قد تجدها في الجيران الأبعد قليلا من روسيا، أي في محيط البحر المتوسط، مثل الجزائر، وليبيا، مصر وإسرائيل وحتى الخليج العربي، فيما روسيا قد تتوجه إلى الصين لاستيراد حاجاتها من البضائع المختلفة.
وهذا سيعني اصطفافا جديدا للعالم، قد يكون أقرب لما كان عليه أيام الحرب الباردة، وقد دلل التصويت في مجلس الأمن أولا، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة تاليا، على هذا، حيث إن تحشيد أميركا لدول العالم ضد روسيا، لا يعني نجاحها في عزلها دوليا، وهو ما لم يدركه البيدق الأوكراني حين طالب رئيسه فلودومير زيلنسكي بسحب عضوية روسيا الدائمة في مجلس الأمن، ليرد عليه المندوب البريطاني بالقول باستحالة ذلك نظرا لميثاق الأمم المتحدة نفسها.
وما يعزز احتمالات هذا المنحى هو إقدام الولايات المتحدة على تعزيز حضور أسطولها وقطعها البحرية حول تايوان، لترد عليها الصين بأنها سترد بدورها على المحاولة الأميركية لتعزيز مظاهر استقلال تايوان، وبما يشير إلى أن أميركا تفكر في أن تحرك البيدق التايواني بعد أن تنتهي اللعبة في أوكرانيا، أي أن عينها الثانية على القطب العالمي الآخر، وهو الصين.
وقد صوتت الصين مرتين بالامتناع عن الاصطفاف إلى جانب أميركا في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة، ولم تقف علنا إلى جانب روسيا، لأنها لا تريد أن تسرع في فتح جبهتها مع الغرب بأسرع مما يجب.
ورغم تعدد استخدام أدوات المواجهة، لتشمل الحرب السيبرانية، والأقمار الصناعية، إلا أن تجاوز حافة الهاوية المتمثل باستخدام القنابل النووية، ما زال أمرا مستبعدا للغاية، لكن أميركا كما كان حالها دائما، حيث كانت الحروب إبان الحرب الباردة تنشأ بين وكلاء المعسكرين إقليميا، حيث كان السلاحان السوفييتي والأميركي يتحاربان، في أكثر من مكان، وبعد الحرب الباردة، كانت تركز على تدخلات أميركية عسكرية بموافقة أو رضا الأمم المتحدة، بما فيها روسيا والصين (حروب العراق وأفغانستان)، فهي ما زالت تشن الحرب في الجانب الاقتصادي، كما هو حالها مع إيران وكوريا الشمالية، كوبا وفنزويلا، وكل الدول التي ما زالت تشق عصا الطاعة الأميركية.
وتراهن أميركا على أن الحصار الاقتصادي يمكن أن يغير من النظام الداخلي، فهي ظلت تراهن على إسقاط نظام ولاية الفقيه في إيران، وهي تحاول أن تسقط فلاديمير بوتين في روسيا، لكن روسيا ومن بعدها الصين، ليست إيران، ولا العراق، وإذا كانت أميركا قد فشلت في احتواء أو إسقاط نظام حزب العمال الكوري الشمالي، كما فشلت في إسقاط نظام حكم مادورو في فنزويلا، فإنها لن تنجح في إسقاط نظام الحزب الشيوعي في الصين، ولن تنجح في إعادة روسيا إلى حظيرة التبعية كما كان حالها في عهد بوريس يلتسين.
لكن أميركا قد تنجح في إبطاء النمو الاقتصادي لكل من روسيا وأوروبا، والأهم في قطع الطريق على المحاولة الأوروبية بالتفرد وإنشاء قطب عالمي بعيدا عنها، فإن لم تعد أوروبا تابعا لها كما كانت خلال الحرب الباردة، فعلى الأقل تكون قطبا حليفا لها في محاولتها لاحقا للحد من التفوق الاقتصادي الصيني عليها.
كل هذا يعني أن الحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا، ما هي إلا مسرح للحرب الاقتصادية، حيث تحاول أميركا بشكل خاص، أن تعيد «ضبضبة» النظام العالمي ليبقى أحادي القطب، أو على الأقل متعدد الأقطاب لكن مع تميزها كقطب أقوى وأهم.
فيما تحاول روسيا والصين، أن تثبتا لأميركا، أن العالم قد تغير، ولم يعد كما كان عليه قبل ثلاثة عقود من الآن، وإذا كانت الصين تفعل ذلك عبر نموها الاقتصادي الذي تفوق كثيرا على الاقتصاد الأميركي خاصة ما بعد ظهور «كورونا»، فإن روسيا تستخدم قوتها العسكرية لتثبت حضورها وحقها في أن تبقى قطبا عالميا، وما على أميركا إلا أن تظهر القدر الكافي من الواقعية، لتقتنع بأن «العيال كبرت»، وأن عالم العقد الثالث من الألفية الثالثة، قد شهد مياها جديدة قد جرت في مياه نهر الحياة البشرية.