على ضوء الأزمة الأوكرانية: الملامح الأوليّة للتغيّرات العالمية
مقالات

على ضوء الأزمة الأوكرانية: الملامح الأوليّة للتغيّرات العالمية

مع تفجّر الأزمة الروسية - الغربية حول أوكرانيا، وفي نظرة استشرافٍ مستقبلية، توّقع العديد من الخبراء والمختصّين بالشؤون الدولية أن غزوّاً روسياً محتملاً لأوكرانيا سيُفضي في نهايته إلى عالمٍ يختلف عمّا كان عليه الحال قبل الحرب. في حينه، بدت تلك التوقعات بالنسبة لأوساطٍ عديدةٍ من عامة الناس تكهّنات مبالغا فيها وبعيدة الاحتمال. فجميع الدلائل والمؤشرات، وحتى التصريحات الرسمية الصادرة من عواصم الدول المنخرطة بالأزمة، كانت جميعاً تؤشر باتجاه أن الحرب إن وقعت ستبقى، مع كل مصاعبها ومآسيها، حدثاّ موضعياً سيجري في نهاية المطاف السيطرة عليه واحتواؤه، ولن يتمّ تحويله إلى حربٍ عالميةٍ مفتوحةٍ تؤدي بالضرورة إلى ترجمة تلك التوقعات إلى واقع. ولذلك، ومع القلق من وقوع الحرب وما ستؤدي له من نتائج كارثية على الأوكرانيين تحديداً، لم يكترث الكثيرون لتوقعات المتوقّعين، والتي اعتقدوا أنها تضخيمية، وتأتي ضمن محاولات كبح جماح الأزمة علّها لا تنفجر.
ولكن ّالأزمة انفجرت، ووقعت الحرب. ومع أنه لم يمرّ على اندلاعها سوى أيام معدودات، إلا أنه توافرت خلال هذه الفترة القصيرة جدا دلائل تشير إلى أن توقعات الخبراء والمختصّين لم يكن مبالغاً فيها، بل هي صحيحةٌ ودقيقة. فالساحة الدولية بالفعل ستشهد تحوّلاتٍ جوهريةٍ ستؤدي إلى إحداث تغييراتٍ بنيويةٍ في النظام الدولي، وقد بدأت معالمها في الظهور تباعاً، وكأن نظام أحادي القطبية القائم حتى الآن كان قد وصل إلى وضعٍ من الوهن لم يعُد بإمكانه أن يصدّ هذه الهزّة التي ستعمل عمل «القشّة التي قصمت ظهر البعير». ما يعنيه ذلك أن هذه «القشّة» ستؤدي إلى سلسلةٍ متدحرجةٍ من التداعيات المتوالية، والتي سيكون محصّلتها التسريع ببزوغ نظام دولي جديد، سيحتاج إيصاله إلى حالة الاستقرار وقتاً وجهداً كبيرين من قِبل الفواعل الدولية المؤثرة، والتي من الممكن أن يُفرض عليها، نتيجة اختلال التوازن وفقدان القدرة على الردع، ضرورة المرور عبر موجة صراعاتٍ عنيفةٍ قادمة.
ولكن لماذا تُعتبر أزمة الحرب الحالية هزّةً تختلف عن غيرها من الهزّات التي أصابت النظام أحادي القطبية منذ نشوئه مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد تفكك الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي؟ السبب هو أنها المرّة الأولى التي تقوم فيها دولةٌ كبرى، هي روسيا التي لا تخفي هدفها في تعديل النظام الدولي الحالي، بمواجهة هذا النظام عسكرياً وبشكلٍ مباشر. فالحرب الدائرة حالياً هي ليست بين روسيا وأوكرانيا فقط، وإنما هي بين روسيا من جهة، وأميركا وتابعيها من جهةٍ ثانية، والذين يشنّون حرباً بالوكالة عليها باستخدام الأوكرانيين. المهم في الأمر أن إمكان التغلّب على روسيا عسكرياً في هذه الحرب أمرٌ غير ممكن طالما أعلن حلف الأطلسي (الأداة العسكرية لنظام أحادي القطبية حالياً) أنه ليس بوارد التدخل المباشر فيها. بل على العكس تماماً، فإن روسيا هي التي ستربح هذه المواجهة، وستفرض على الأرض شروطها بخلق واقعٍ جديدٍ يضع حدّاً للمشاكسات التي تعرّضت لها من أميركا خلال السنوات الماضية.
لن يتوسّع حلف الأطلسي في الجوار الروسي أكثر مما توّسع سابقاً، ولن تتمكن أميركا من فعل شيءٍ بهذا الخصوص، سوى فرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ على روسيا، ستعود وتؤلمها هي أيضا، وحليفاتها الغربيات بشكلٍ مماثل. ففي عالمٍ «ساحت» حدوده الاقتصادية لم يعُد بالإمكان عزل فعلٍ اقتصاديٍ سلبيٍ موجّهٍ ضد طرفٍ ما، من العودة والتأثير سلبياً على مُنشئ ذلك الفعل. لقد عَلِقت أميركا في مواجهةٍ كانت باختيارها ومن صُنعها، ولكنها مواجهةٌ كانت فيها من الأساس محكومة بالفشل. الدولة العظمى تفشل في مواجهة تحدي دولةٍ كبرى تستهدف الإطاحة بمكانتها المتفرّدة على رأس هرم النظام الدولي، وتسعى لمشاركتها موقع الصدارة.
بالطبع، لم ولن تستسلم أميركا بسهولة للتحدّي، فما زال في جعبتها ما تقاوم به، وبشراسة، محاولات الإطاحة بها عن قمّة هرم النظام الدولي. ولذلك تستخدم ما تملك من قدرةٍ تحكّميةٍ بالاقتصاد العالمي كوسيلة ضغطٍ عقابيةٍ تستخدمها بأقصى فاعليةٍ ضد روسيا. ولكن الأهمّ من ذلك يكمن في محاولتها المستميتة إيجاد والمحافظة على تكاتف أوسع تحالفٍ دوليّ يستهدف عزل روسيا لتدفيعها ثمن المواجهة، والمحافظة على المكانة الأميركية في أعلى هرم التراتبية الدولية. لهذا السبب، وبدبلوماسية نشطةٍ للغاية، تمارس واشنطن كل قدراتها الترغيبية والترهيبية على عواصم مختلفةٍ في العالم للحفاظ على تماسك التحالف الدولي خلفها. وعلى سبيل المثال، استطاعت مؤخراً تمرير قرار إدانةٍ لروسيا بأغلبيةٍ كبيرةٍ في الجمعية العامة للأمم المتحدة (141 مع، 5 ضد، 35 امتناع)
ولكن هذا الأمر لا يشي بكلّ الحكاية، إذ يجب الانتباه إلى وجود تصدعاتٍ مهمّة في المسعى الأميركي، هي بالتأكيد مقلقة لواشنطن، فهي لم تستطع إقناع الهند والإمارات، وهما حليفتان مقرّبتان، من التصويت معها في مجلس الأمن لإدانة روسيا. ولم تستطع إقناع الهند وباكستان وعديد الدول الإفريقية بالتصويت معها في الجمعية العامة، بل وجاهدت للحفاظ على موقفٍ مؤيدٍ لإسرائيل، أقرب حلفائها عليها، لموقفها. وهذا مؤشرٌ مقلق لها يدّل على وجود بداية تصدّعاتٍ في قبول الآخرين التلقائي باستمرارية هيمنتها المطلقة على النظام الدولي. إنها المصالح التي تتحكّم بالمواقف، ويبدو أن دولاً بدأت تشتمّ رياح التغيير الشرقية الوافدة.
لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إن هذه الرياح بدأت تُخلخل أركان العمود الفقري للتحالف الغربي ذاته، والذي تعتمد عليه أميركا في استدامة تفرّد مكانتها الدولية. فهذه المكانة تستمدّ قوتها من الاعتمادية التقليدية لدول أوروبا الغربية على الدعم الأميركي، الذي توفّره لهذه الدول مظلة الحماية العسكرية لحلف الأطلسي، وهي اعتماديةٌ نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرّت بعلاقةٍ عضويةٍ قويةٍ حتى الآن.
بفعل حربٍ لم يتجاوز اندلاعها بضعة أيام، تخرج ألمانيا عن طورها الذي تقيّدت به منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، لتُعلن على لسان مستشارها، ووسط تصفيقٍ حماسيٍّ لنوّابها في البرلمان، أن العالم بات على أبواب «مرحلة جديدة» بعد وقوع هذه الحرب في أوروبا، وأن ألمانيا ستقوم بتسليح نفسها، وستُنفق 100 بليون دولار من موازنة هذا العام على ذلك، وستُخصّص منذ الآن أكثر من 2% من ناتجها القومي السنوي لهذا الغرض. لقد خرجت ألمانيا من القمقم بعد أن سئمت، على ما يبدو، من استمرار اعتماديتها على واشنطن، بسياساتها المتقلّبة، تجاه الحفاظ على الأمن الأوروبي، وذهبت باتجاه «حكّ جلدها بظفرها».
يأتي هذا التغيّر في الموقف منسجماً مع ما كان يدعو له الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، منذ وصوله سُدّة الرئاسة في بلاده. فقد جاهر منذ البداية بطلب أن تتولى أوروبا مسؤولية الدفاع عن نفسها بنفسها، وأن تقوم دول الاتحاد الأوروبي بتشكيل جيشٍ أوروبي يقوم بهذه المهمّة. وفي خطابٍ موّجهٍ للأمة قبل بضعة أيام اعتبر فيه أن الهجوم الروسي على أوكرانيا «نقطة تحوّل» في التاريخ الأوروبي، أكّد ماكرون، وبصفة أن فرنسا تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي حالياً، العزم ليس فقط على زيادة الإنفاق الفرنسي على الدفاع، وإنما أيضاً على ضرورة أن تتحمّل أوروبا مسؤولية الدفاع عن نفسها.
يمكن النظر إلى هذه التحوّلات الجارية حالياً في موقفيْ أكبر دولتين داخل القارة الأوروبية على أنها بداية تململ من استمرار الاعتماد على أميركا، وبالتالي التحرّر من استمرار الإذعان إلى رغباتها ومطالبها. يتّضح ذلك إذا أتُخذ بالاعتبار أن روسيا جزءٌ من أوروبا، وأنها أقرب جغرافياً على دول غرب أوروبا من أميركا، وأن مصالح متشابكة، وخاصةً اقتصادية، تربط هذه الدول بموسكو. وبالتالي، وتحت قشرة مواقف التنديد الصارخ بروسيا حالياً، لا غنى عن وجود علاقة ارتباطية بعيدة المدى معها، تأخذ المصالح والهواجس الروسية في الاعتبار.
ويجب ألا يغيب عن البال أن كلّ ما يجري على الساحة العالمية من حراكٍ، الآن، يروق لطموحات الصين الصاعدة، ويتدحرج تلقائياً في حِجرِها. فالخلخلة الجارية حالياً لأحادية القطبية الدولية تصبّ في مسعاها لتغيير بُنية النظام الدولي، وتبوئها موقع الصدارة فيه. الفرق بين الصين وروسيا أن الأولى تعتمد من أجل تحقيق مسعاها على قوتها الاقتصادية المتنامية، بينما تعتمد الثانية على مكانتها العسكرية. فروسيا ماردٌ عسكرياً، ولكنها قزمٌ اقتصادياً (اقتصاد ولاية كاليفورنيا الأميركية لوحدها يفوق الاقتصاد الروسي). أما الصين فهي ماردٌ اقتصادي، وبدأت تبني قدرتها العسكرية، الآن، بحثاثة. لا تستعجل الصين وصولها قمة النظام الدولي، فهي، بعكس روسيا، لا تريد أن تفوز بالضربة القاضية، بل من خلال تراكمية تسجيل النقاط المتتالية. أما روسيا فليس أمامها في النزال سوى محاولة الفوز بالضربة القاضية، كما هي حالها، الآن. ولمواجهة سلسلة العقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها حالياً ليس أمامها من سبيل سوى زيادة توجهها نحو الصين وتكثيف اعتماديتها اقتصادياً عليها. وهذا بالطبع يصّب في المصلحة الصينية التي تراكم من مصادر قوتها بتحالفاتٍ تأتيها دون تعبٍ منها أو إثارةٍ لغيرها.
يضاف إلى ذلك أن الصين مستمرة في بناء روابط علاقاتها الاقتصادية، مستخدمةً مبادرة الحزام والطريق آلية فعّالة لتحقيق ذلك، مع معظم دول العالم، وفي مختلف القارات. لا تكترث بكين بالصراعات العسكرية الدائرة في العالم، والصخب السياسي والدبلوماسي المرافق لها. لا يعنيها إلا ما يعنيها، وأهمّ ذلك أن تبقى خطوط تجارتها مفتوحة أمامها عالمياً. بالنسبة لها: أميركا تَضعف وتُضعف نفسها، وهي تَصعد بتؤدةٍ وثبات، ولا حاجة للسرعة، بل للمحافظة على رباطة الجأش واستمرار السير قُدماً إلى الأمام.
لقد فتحت الحرب الروسية - الأوكرانية «الصندوق»، والآن، تتناثر محتوياته في الأرجاء.
وبالفعل، بعد ما ينوف على أسبوع الحرب بقليل، لم يعد العالم، الآن، كما كان حينذاك.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.