هشاشة أوضاعنا والأزمات العالمية
كما أن الاختبار الحقيقي للأفراد يكون في الشدائد والمحن، لا في أوقات الرخاء، كذلك هي الحال مع الدول والمجتمعات وأنظمة الحكم التي قد تواجه تحدياتٍ ومخاطرَ محليةً أو تنال نصيبَها من تأثير الكوارث العالمية، فتنكشف على أثر ذلك مناعتُها الداخلية وقوّتُها أو ضعفُها وهشاشتُها. وقد رأينا جميعا كيف اضطربت البشرية بأسرها حين دهمتها جائحة "كورونا" فظهرت أنظمتها الصحية والاجتماعية على حقيقتها، حيث انهار بعضها تماما وصمد بعضها الآخر، وتبين مدى جشع وانعدام إنسانية بعض النظم الصحية، وبرزت أبشع أخلاقيات العلاقات الدولية في محاولات الاستئثار بالموارد الطبية مثل أدوات التعقيم والمطاعيم، وتعرضت اقتصاديات معظم الدول لأقسى الامتحانات، ولحقت خسائر لا سابق لها بقطاعات اقتصادية بعينها مثل النقل الجوي والسياحة، وأفلست عشرات آلاف الشركات، وخسر مئات الملايين حول العالم وظائفهم، بينما تضاعفت ثروات قلة قليلة من الأفراد والطغم المالية والشركات الاحتكارية الكبرى مستفيدة من الجائحة.
ومع (كورونا) ومشتقاتها ومتحوراتها، شهدنا أشكالا متناقضة من التخبط في إدارة أمور الدول والاقتصاديات المحلية بين فتح الأسواق وإغلاقها، والتعليمات الواجب على الأفراد اتباعها في حياتهم اليومية ولقاءاتهم بالغير، فضلا عن تبادل الاتهامات على أعلى المسؤوليات الدولية بشأن المسؤولية عن نشأة هذه الجائحة، وبدت كثير من الدول ( ومن بينها معظم دولنا العربية) عاجزة عن فعل شيء، فسلّمت أمرها للخالق، لا عن إيمان وتقوى، ولكن عن ضعف وقلة حيلة ومحدودية الخيارات والحلول التي تملكها هذه الدول الضعيفة، وبدلا من التعامل العلمي والواقعي مع الجائحة والتركيز على سبل الحد من تاثيراتها، تفتقت خيالات كثير من الناس وبعض قادة الراي العام عن شروح وتفسيرات غيبية لهذه الظاهرة فاعتبرها البعض مسرحية ذات أهداف غامضة، وعدّها آخرون عقابا للصين لأنها اضطهدت مسلمي الايغور، أو عقابا للبشرية جمعاء بسبب آثامها ومعاصيها.
ما زالت كورونا تفتك بالبشر وخاصة مع ظهور متحورات جديدة لا حصر لها للفيروس الماكر، وما زالت الإحصائيات اليومية تشير إلى أن الجائحة في اتساع وتصاعد يومي، وأنها على الأرجح قد توطّنت على هذا الكوكب وسوف ترافق البشر في حياتهم لفترة طويلة، وهي تفرض تحدياتٍ وواجباتٍ لم تُحسم بعد بشأن طبيعة الأنظمة الصحية وأولوياتها، وما إذا كانت هذه الأنظمة مصممة لصحة الناس ووقايتهم من الأمراض أم للاستثمار التجاري والتربُّح، كما تطرح أسئلة كثيرة بشأن مسؤوليات جهاز الدولة عن صحة مواطنيها، خصوصا مع ميل قوى اليمين العالمي والمحافظين الجدد والقوى الليبرالية إلى خصخصة كل الخدمات وإعفاء الدولة من مسؤولياتها تجاه الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية وحتى عن إنشاء البنى التحتية وبعض مهام الدفاع الوطني.
الآن تقف النظم السياسية والاجتماعية أمام امتحان الحرب في أوكرانيا الذي قد يكون أصعب من جائحة كورونا في حال استمرار الحرب لأشهر قادمة والعجز عن إيجاد حلول سلمية، كما أن سلسلة العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا مرشحة للاستمرار لفترة طويلة، وعلى الأغلب أن تداعياتها والهزات الارتدادية المصاحبة لها سوف تصيب كل الدول والمجتمعات من دون استثناء.
وإذا كانت جائحة كورونا فرضت على العالم الاتحاد، ولو ظاهريا، في مواجهة ما يتعرض له الجنس البشري بأسره، فإن هذه الحرب قسمت العالم كما لم يحصل منذ الحرب العالمية الثانية، ومع هذا التصعيد وضعت كل القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان في الأدراج وعلى الرفوف، ورأينا نماذج صارخة للمعايير المزدوجة، وسياسات الكيل بمكيالين سواء في التعامل مع الانتهاكات التي تشملها الحرب وبخاصة استهداف المدنيين، وقضية اللاجئين، أو في سهولة فرض العقوبات وشمولها كل مجالات الحياة من المال والاقتصاد والاتفاقيات التجارية وصولا للرياضة والآداب والفنون، وكذلك تجييش الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي فضلا عن الضغوط الهائلة التي مارستها الإدارة الأميركية على الدول الصغيرة لانتزاع مواقف مؤيدة للغرب وللعقوبات، ونحن الفلسطينيين أكثر من يعرف أن 74 عاما من الحروب والانتهاكات والتهجير والاقتلاع وجرائم الحرب لم تدفع أحدا إلى فرض أي عقوبة على من اقترف كل هذه الجرائم ويواصل اقترافها يوميا بحجج لا تنطلي على أحد.
من المتوقع أن يمتد تأثير الحرب على أوكرانيا لسنوات طويلة قادمة، وأن تترك هذه الحرب -مهما كانت نتائجها- آثارها على طبيعة النظام الدولي الجديد، ليس فقط لجهة تحوُّله من نظام أحادي القطب لنظام متعدد الأقطاب، بل ايضا في ضعف وانحسار تأثير القوى الصغيرة والهامشية التي ستكتفي بالدوران في فلك قوى كبرى أو تنخرط ضمن تكتلات إقليمية.
منذ الأيام الأولى للحرب، اضطربت سلاسل توريد الغذاء والطاقة، وزاد الطلب على الأسلحة فانتعشت خزائن وآمال تجار السلاح ومن بينهم الشركات الإسرائيلية، وراحت كل دولة، وبخاصة الدول الصغيرة والضعيفة، تسعى إلى طمأنة مواطنيها وإبلاغهم عن مخزونها من القمح والحبوب وتدابيرها لتعويض النقص، كما ارتفعت اسعار النفط إلى أعلى مستوى لها في القرن الحالي (باستثناء طفرة مؤقتة في العام 2008) وهي مرشحة لمزيد من الارتفاع الأمر الذي سوف يؤثر على أسعار كل المنتجات الأخرى.
من المتوقع أن نكون كفلسطينيين من اكثر الشعوب تأثرا بهذه الحرب، بدءا من تعزيز النزعة العسكرية والأطماع التوسعية لدولة الاحتلال وإمعانها في سياسات القمع والبطش التي تنطوي على جرائم يومية بحقنا لن يحفل العالم بها كثيرا، وصولا إلى تهميش قضيتنا وانفضاض العالم عن الاهتمام بتفاصيلها، وكذلك ضعف التزام دول العالم بتمويل السلطة الفلسطينية وهو ما سوف يجعل الشعب الفلسطيني فريسة للاستفراد الإسرائيلي، ويجعل السلطة أكثر هشاشة وقابلية للابتزاز والضغوط الإسرائيلية.
ربما لا يستطيع الفلسطينيون التأثير كثيرا في معادلات الصراع في اوكرانيا وعلى امتداد العالم، ولكنهم حتما يستطيعون إذا أرادوا، التأثير في مناعتهم الداخلية والحد من قدرات دولة الاحتلال على حسم الصراع من خلال استثمار هذه الأزمة العالمية.