مجتمعات تكذب ولا تخجل..!!
كانت الهزيمة الحزيرانية، في عام 1967، بمثابة لطمة مروّعة للحواضر العربية. ولا نجازف بالقول إن هزاتها الارتدادية لم تتوقف بعد. وما يعنينا، الآن، أنها حرّضت على ردود فعل فكرية وسياسية كانت يسارية في الغالب والجوهر، ولكنها (لسوء الحظ) لم تعمّر طويلاً.
وإذا حصرنا الاهتمام، هنا، بالأفكار يمكن إدراج كتابين لصادق جلال العظم هما "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، و"نقد الفكر الديني" في قائمة الردود المعنية. كان للكتابين المذكورين ما كان لكتاب قسطنطين زريق "معنى النكبة" في العام 1948، من عميق الأثر على تفكير جيل لاحق من الوطنيين والمثقفين العرب في سياق التشخيص، ورصد الأسباب، وطرح الحلول.
لا تحتمل معالجة اليوم تفصيل الفرضيات الرئيسة في كتابي العظم بقدر ما تسعى، بأثر رجعي، لترى فيهما وسيلة إيضاح في المقارنة بين زمنين. وكلاهما، من حُسن الحظ، يصلح مرآة للآخر. فالأوّل، "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، يعالج، بالنقد والنقض، سمات اجتماعية وثقافية وسياسية سادت في العالم العربي، ومهّدت للهزيمة. والثاني، "نقد الفكر الديني" يفكك الرافعة الأيديولوجية للرجعية، التي تعرقل مكافحة الفقر والجهل والمرض، وتحديث المجتمعات والأذهان.
وما يعنينا يتمثل في حقيقة بسيطة، وضرورية: أهمية ممارسة النقد، والذاتي منه بشكل خاص، في مراحل الصعود والهبوط على حد سواء، وما أدراك إذا كنّا قد هبطنا إلى درك غير مسبوق. لا معنى لممارسة كهذه إلا إذا بحثنا في بنيتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية عن موطن الخلل، وتفادينا التملّص من المسؤولية، وإلقاء تبعة ما أصابنا على عاتق الآخرين.
كان هذا مدخلاً أساسياً في معالجة العظم للهزيمة، وكيفية التعاطي معها. وينبغي أن يكون مدخلنا الرئيس في تحليل الواقع الراهن سواء تعلّق الأمر بانهيار المشروع الوطني (وانتظار عائلات فقيرة في غزة تصفها لغة كابوسية هجينة بالمتعففة للمائة دولار القطرية) أو بأشياء فرعية كالمظاهرة ضد اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) في الخليل. الخلل فينا لا في مكان آخر.
والمُفزع، في سياق كهذا، لا يتمثل في تجاهل أشياء كهذه وحسب، بل وفي إنكارها وتصعيد نوافل وتوافه إلى صدارة الاهتمام، أيضاً. فمن أكثر إهانة للكرامة الوطنية (الحياء العام، إن شئت) كذبة العائلات المتعففة (التي لو كانت متعففة لما عاشت على مائة دولار أو قبلت بها) أم امرأة عارية في مشهد مصوّر؟
لا أسوق هذه المقارنة في معرض تعميق دلالة الحياء العام، فقط، بل وللتذكير بشخصية الفهلوي، التي أفرد لها العظم مكانة بارزة في نقده للهزيمة الحزيرانية. فالفهلوي في نظره شخص يبحث عن أقصر الطرق لتحقيق أهدافه دون التوقف أمام دلالتها الأخلاقية، سريع التكيّف، يتجاهل العيوب والنواقص، ويبالغ في قدراته الذاتية، لا يعترف بالمسؤولية عن ارتكاب أخطاء، ويكذب على نفسه وعلى الآخرين، وصولي، منافق، انتهازي، يشعر بالنقص ويحجبه عن الآخرين بالوقاحة والأوهام.
ومن سوء حظنا أن هذا النوع من الكائنات الاجتماعية (الذي قد يصبح ضابطاً في الجيش، ومسؤولاً في الحكومة، وموظفاً في الدولة، وتاجراً في السوق، ومثقفاً في السوق، أيضاً، ومعلّماً في المدرسة) لم يعد ظاهرة اجتماعية سلبية، بل صار في زمن العولمة، خاصة في صيغتها المخلجنة، وبعد انهيار الحواضر، مثلاً أعلى، ودليل الكفاءة والشطارة والنجاح.
والأسوأ من هذا وذاك، أن الظاهرة المعنية لم تعد اجتماعية وتقتصر على السلوك العام للأفراد، بل صارت سمة عامة لأنظمة سياسية، أيضاً. فبعض الأنظمة تتجلى فيها سمات الفهلوة، وتصح معها تسمية النظام الفهلوي. ولهذا كله تداعيات يصعب حصرها في حقول الثقافة والسياسة والاجتماع. وأعتقد، بقدر ما أرى، أن في العالم العربي وسائل إيضاح مُذهلة لهوية وماهية الفهلوة والنظام الفهلوي. ولعل في إبراهيم وسلامه، وشركاه، فوق الطاولة وتحتها، أكثر من عبرة لأولي الألباب.
بمعنى آخر، وعلى سبيل الحوصلة، فلنفكر في مصيبة الحياء العام التي ابتلينا بها في الآونة الأخيرة، وما يسمها من تصعيد للهامش وتهميش للمتن كدليل على ديمومة، بل وحتى ازدهار، ظواهر شُخّصت بوصفها من مسببات الهزيمة، قبل خمسة وخمسين عاماً مما تعدون.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد، فلنقل إن المغالاة اللغوية، والإفراط العاطفي في حب فلسطين، والعنتريات الخطابية، بل وحتى نقد السلطة، والدفاع عن الثوابت، كبديل لممارسة النقد والنقد الذاتي، تصلح كلها لتكون جزءاً لعبة الفهلوي والفهلوة، بوصف وتشخيص ولغة صادق جلال العظم.
أخيراً، نصل إلى "نقد الفكر الديني"، الذي يمثل، كما ذكرنا مرآة "للنقد الذاتي بعد الهزيمة". ولإدراك حقيقة ما حدث فلنقل إن "الفكر الديني" الذي انتقده العظم، قبل خمسة وخمسين عاماً، يبدو مقارنة بالواقع المُعاش أكثر انفتاحاً وإيجابية من تجليات سياسية وأيديولوجية وتنظيمية وإرهابية لاحقة نجمت عن الزواج الإخواني ـ الوهابي.
ولكي لا نغرق في التفاصيل: كانت في الفكر الذي انتقده العظم مساحة يمكن تشخصيها (بصرف النظر عن الحجم) لمفردات من نوع الفقر والجهل والمرض (وكلها كلمات مفتاحية في خطاب المنوّرين العرب) أما بعد الهزيمة، وطفرة العوائد النفطية المالية، فقد أُخرجت كلها من التداول. وأحياناً، صار ما كان يسمى جهلاً، في زمن مضى، مدعاة للفخر في زمن لاحق، وما كان يُسمى فقراً "قسمة ونصيب"، وما كان مرضاً صار من "الهبات"، الذين تتكرم الدولة الريعية بدفعها تعبيراً عن عطفها على مواطنيها.
ولنتذكّر: الفقر كما الغنى صناعة اجتماعية. لا وجود لشيء اسمه عائلات متعففة، في غزة، وفي كل مكان آخر، بل توجد مجتمعات تكذب ولا تخجل.