هل تؤتي العقوبات الاقتصادية ثمارها؟
مقالات

هل تؤتي العقوبات الاقتصادية ثمارها؟

لا توجد دولة في العالم تمتلك من الأدوات التي يمكنها أن تؤثر في سياسات الآخرين بمقدار الولايات المتحدة وهي لهذا تسمى (super power)، قوة خارقة، في حين أن الدول الأخرى مثل الصين وروسيا وبريطانيا تسمى (great powers)، قوى عظمى.
بفضل امتلاكها لهذه القوة والمتمثلة في حجم اقتصادها وترسانتها العسكرية وانتشار ثقافتها وارتباط الآخرين بنظامها المالي، فإن الولايات المتحدة لا تعدم الوسائل للضغط على الآخرين للامتثال لسياساتها.
أحد اهم أشكال الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على الدول هو العقوبات الاقتصادية. اليوم، هناك ما يقارب العشرين دولة تتعرض لعقوبات اقتصادية من الولايات المتحدة وهي تشمل روسيا وإيران وفنزويلا والسودان ودولة جنوب السودان وسورية واليمن وكوبا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وغيرها.
بعض هذه الدول تتعرض للعقوبات منذ عشرات السنين مثل كوبا وبعضها تتعرض للعقوبات منذ وقت قريب. بعضها تتعرض لعقوبات خانقة تطال مختلف مناحي الحياة مثل كوبا وإيران وسورية وبعضها العقوبات عليها رمزية وتطال بعض الشخصيات فيها فقط مثل بيلاروسيا.
لكن لماذا العقوبات الاقتصادية، وهل فعلا ستؤدي إلى النتائج المرجوة منها؟
ريتشارد حنانيا، الباحث في معهد "كاتو" في واشنطن نشر دراسة قبل سنتين عن العقوبات الاقتصادية خلاصتها أنها غير فعالة وغير أخلاقية وأنها فقط مناسبة للساسة الأميركيين لأن تكلفتها عليهم محدودة وتعطي الانطباع للرأي العام الأميركي بأنهم يقومون بشيء ما للتعامل مع الدول التي لا تتفق مصالح الولايات المتحدة معها أو المتهمة من قبلها بارتكاب "جرائم" معينة.
العقوبات الاقتصادية غير أخلاقية، يقول حنانيا، لأن تأثيرها المباشر لا يقع على النظام ونخبه الذي تستهدفه هذه العقوبات ولكن على الناس جميعا في تلك الدولة.
مثلا، العقوبات الاقتصادية التي استهدفت العراق قبل الغزو الأميركي له العام 2003 تسببت في موت نصف مليون عراقي لأنها حرمت العراقيين من الأدوية ومن استيراد المعدات الطبية وحتى من المواد الغذائية التي يحتاجها الأطفال ما زاد من معدل الوفيات في ذلك البلد. لمعرفة تأثير العقوبات المباشر على العراقيين يكفي القول إن دخل الفرد السنوي في العراق وصل نهاية العام 1989 إلى 3510 دولارات، لكن بعد فرض العقوبات وصل نهاية العام 1996 إلى 450 دولارا!!
سورية أيضا، انخفض دخلها الوطني ما بين 2010 و2015 بنسبة 75% وهذا لم يحدث لا لألمانيا ولا لإيطاليا ولا لليابان خلال الحرب العالمية الثانية.
سورية، الدولة التي كان شعبها يأكل مما يزرع، أصبحت عاجزة عن إطعام شعبها بسبب العقوبات الاقتصادية عليها مضافا لذلك بالطبع الحرب الأهلية فيها. لكن العقوبات حرمتها على الأقل من بيع نفطها الذي كان يستفاد من جزء منه في استيراد المواد الضرورية والأجهزة الحديثة للزراعة وللمستشفيات.
ليس صحيحا، يقول حنانيا، إن العقوبات الاقتصادية تستثني المواد الغذائية أو الطبية لأنه حتى لو تم استثناؤها بقانون، العقوبات تبدأ من البنوك وهذه في العادة لا ترغب في مشاكل مع الولايات المتحدة لذلك تستثني كل شيء يخص الدولة التي تتعرض للعقاب.
والعقوبات غير فعالة أيضا لأن هدفها إما تعديل سلوك النظام أو تغيره، وهذا لم يحدث مطلقا في كل الحالات التي تعرضت فيها دول للعقاب. الضغط بالعقوبات يُؤمَل منه أن تتحرك شرائح المجتمع في الدولة المُعاقَبة للاحتجاج على النظام وإجباره على تغير سياساته أو تغير النظام ككل.
والعقوبات يُؤمَل منها أيضا تفسيخ النخبة الحاكمة ودفعها للانشقاق على بعضها وبالتالي إضعاف النظام والسماح لقوى مؤيدة للولايات المتحدة باستلام السلطة.
لكن هذا لم يحدث مطلقا في التاريخ. الحقيقة أن العقوبات لها مفعولان:
الأول: أنها قد تزيد من شعبية النظام المُعاقَب وتمنحه شرعية لمواصلة سياساته. نظام الرئيس بوتين في روسيا مثلا وفق استطلاعات مستقلة زادت شعبيته بشكل كبير بدرجة مماثلة لشعبية الرئيس جورج بوش الابن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.
الثاني: إن هذه العقوبات قد تجبر النظام للتحول إلى قمع شعبه بطريقة وحشية. الأنظمة الاستبدادية لا يمكنها أن تحكم فقط بالحديد والنار، وفي الوضع الطبيعي تحكم هذه الأنظمة بوسائل متعددة منها التوظيف والمكرمات، مضافا إليها القمع ضمن وسائل أخرى.
لكن العقوبات تحرم النظام من مصادر الدولة المتعددة، وبالتالي فإن ما تبقى من مصادر يذهب فقط لقوة القمع في الدولة لأنها الوحيدة التي تحمي النظام ولأن الوسائل الأخرى لم يعد ممكنا الصرف عليها.
العقوبات فعليا أيضا لا تؤدي إلى انشقاقات في النخب الحاكمة لأن هذه النخب مصيرها مشترك ولأنه كذلك، فهي تبقى متماسكة وتتقاسم ما تبقى من مصادر للدولة فيما بينها.
الدول المُعاقَبة أيضا لا تعدم الوسيلة لتفادي العقوبات سواء عن طريق التهريب أو عن طريق دول أخرى لها مصالح معها، وهي فوق كل ذلك تقوم بتعزيز بعض أجهزة الدولة المهمة والتي يرتبط مصير النظام بها. في إيران مثلا، الحرس الثوري أصبح إمبراطورية اقتصادية مهمة يقوم بإنتاج كل شيء وتهريب أي شيء تقريبا.
لذلك كله، العقوبات الاقتصادية غير فعالة وغير أخلاقية. فهي تتسبب في موت الملايين من البشر وتعزز من قوة الأنظمة التي تعاقبها الولايات المتحدة. لعل السؤال الأهم هو التالي: أليست الولايات المتحدة من تسبب في تدمير العديد من الدول وفي مقتل ووفاة الملايين فيها.. لماذا إذا لا تتم معاقبتها؟
الجواب بسيط: لأنها "سوبر باور" ولا يجرؤ أحد على فعل ذلك.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.