بعض ارتدادات الحرب في أوكرانيا
الحرب في أوكرانيا لم تبح بعد بكل أسرارها، ولكن في سياق تطوراتها ومآلاتها، ثمّة ارتدادات خطيرة تقع على هامش الأحداث، من دون أن تأخذ نصيباً مهماً من الاهتمام الإعلامي.
تصرّ روسيا ومعها الصين، على أن هذه الحرب لن تنتهي من دون أن تؤدي إلى استبدال النظام العالمي، أحادي القطب، بنظام متعدد الأقطاب.
هكذا يواصل وزير الخارجية الروسي لافروف الإفصاح عن أحد أهداف هذه الحرب، وهكذا كان الرئيس الصيني قد أشار بوضوح إلى ضرورة أن تقبل الولايات المتحدة شراكة الصين في إدارة شؤون العالم.
هذا العالم الذي تحوّل بفعل العولمة إلى قرية صغيرة، لا يمكنه أن يتجاهل دور وإمكانيات المساهمين الكبار ومنهم روسيا بطبيعة الحال.
كان أحد المحلّلين المتحاملين على روسيا، يقول: إن روسيا لا تملك ما تقدمه للعالم، ولا يستطيع العالم أن يستغني عنه، وأن بوتين أشبه بقاطع طريق يحمل سكيناً ويدور فيه بين الجمهور يطعن هذا ويهدد ذاك.
يغفل هذا المحلّل، ما تمتلكه روسيا من مواد أولية وخامات، ومنتوج زراعي تحتاجه البشرية، ويترك أثراً على توجهات وسياسات الدول والمجتمعات عدا عمّا تمتلكه من ترسانة نووية، ومخزونات أسلحة ضخمة تنافس ما تمتلكه الولايات المتحدة.
أوروبا أول من صرخ ولا تزال تصرخ، خوفاً على أمنها ومصالحها، فيما أقطابها أخذوا في التفكير بإجراء تغييرات على سياساتها، خصوصاً الأمنية والتسليحية، فضلاً عن شعور قادتها، بأن هذه القارة العجوز، تقف في أول طابور الضحايا.
حتى الآن وبالرغم من مرور أقل من شهرين على الحرب، تكبدت أوروبا خسائر بعشرات مليارات الدولارات، وحتى لو أنها أرادت قطع كل الصلات والعلاقات التجارية والاستثمارية والاقتصادية مع روسيا، فإنها لن تنجح في ذلك قبل سنوات.
هل تستطيع أوروبا أن تصمد سواء بدفع المزيد من المليارات، وتعويض بعض احتياجاتها من أميركا، أم أنها ستشهد سقوط العديد من دولها في الاتجاهين.
من ناحية تبدي السويد وفنلندا، وربما النمسا ميلاً واضحاً نحو الانضمام إلى «حلف الناتو»، باعتباره الخيار الوحيد الممكن لحماية مصالحها، ومن ناحية ثانية تظهر المجر وصربيا ميولاً نحو التعاطف مع روسيا، انطلاقاً من حسابات المصالح، وربما وفق رؤية مستقبلية لمآلات الأحداث.
في هاتين الدولتين جرت انتخابات خلال الأيام المنصرمة حملت إلى واجهة السياسة، موالين لروسيا، أبدوا تحفظاً إزاء مجاراة الولايات المتحدة وحلفائها فيما يتعلق بالعقوبات والحماس الزائد لمواصلة تسليح أوكرانيا.
من ارتدادات هذه الحرب، أيضاً، تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للباكستان، التي يصل تعداد سكانها إلى مائتين وعشرين مليون نسمة، وهي دولة نووية.
باكستان رئيس الحكومة السابق عمران خان، عوقبت بسرعة، على موقفها من الحرب في أوكرانيا الذي لم يرضِ الإدارة الأميركية.
كان عمران خان صرّح بأن بلاده لن تكون عبيداً للولايات المتحدة، وقد امتنعت عن الانضمام إلى سياسة العقوبات على روسيا.
خان كان صرح علناً، بأن ثمة مؤامرة من قبل الولايات المتحدة على بلاده، بالاستناد إلى قوى داخلية. القصة معروفة حيث رفضت المحكمة الدستورية العليا قرار الرئيس بحل البرلمان والذهاب إلى انتخابات خلال تسعين يوماً.
قرار «الدستورية العليا» وفّر الفرصة للمعارضة للتصويت على حجب الثقة عن الحكومة، ما انتهى إلى تكليف رئيس المعارضة شهباز شريف بتشكيل الحكومة، وانسحاب عمران خان ونواب حزبه من البرلمان.
واضح أن القصة لن تنتهي عند هذا الحد، فلقد فتح هذا السلوك البلاد كلها على مرحلة من الصراعات الداخلية، والفوضى وربما عودة قوى إرهابية للنشاط داخل باكستان.
ومن تداعيات هذه الحرب، المخاوف التي أعلنتها أستراليا بشأن احتمال نشوب صراع مسلح في المحيطين الهندي والهادي بمبادرة من الصين، ولذلك فإنه يطلب من الولايات المتحدة و»الناتو» تقديم دعم عسكري لبلاده.
ثمة مفارقة غريبة لا بد أنها سترتد في قادم الأشهر أو السنوات على دولة الاحتلال الإسرائيلي. كم حاولت حكومة نفتالي بينيت الظهور بدور الدولة المحايدة، والادعاء بقدرتها على الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، إلّا أنها فشلت في الصمود على هذا الموقف.
كان من الطبيعي والمتوقع أن تكون دولة الاحتلال إلى جانب مرضعيها، لكونها تشاركهم القيم الاستعمارية ذاتها، وتربط مصالحها الأساسية، ودورها بمصالح وسياسات الدول التي أنشأتها، الدولة الأكثر انتهاكاً للقانون الدولي، والأكثر ارتكاباً للمجازر ولجرائم الحرب، والأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان، والدولة التي تختار لنفسها هوية التمييز العنصري، تصوت إلى جانب اثنين وتسعين دولة لصالح طرد روسيا من منظمة حقوق الإنسان.
كيف ذلك وإسرائيل لم تتوقف عن اتهام هذه المنظمة بالعداء لها، وترفض كل ما يصدر عنها من قرارات، وترفض التعاون مع لجان التحقيق التي تشكلها للبحث في شبهة ارتكاب إسرائيل جرائم حرب.
التداعيات الأولية لآثار الحرب في أوكرانيا على إسرائيل جعلت حكومتها مكبّلة، وتتصرف على غير عادة الحكومات الإسرائيلية التي لم تكن تنظر خلفها حين تقرر هدر الدم الفلسطيني، وارتكاب المجازر من دون أن تنتظر حساباً أو عقاباً.
سيأتي يوم وربما ليس ببعيد حين تقع تحت سوط الخطاب الذي يسيطر على لغة المسؤولين الغربيين والأميركيين بشأن الاحتلال والقانون الدولي، وحقوق الإنسان وقيم الديمقراطية والمساواة، وإلّا فإن هؤلاء المسؤولين سيقعون في فخ السقوط الأخلاقي أمام مجتمعاتهم.
ليس هذا وحسب بل إن أيديها ستكون مكبّلة تجاه سورية، بعد أن تسقط تفاهماتها الأمنية مع روسيا. إن كانت هذه بعض الارتدادات والتداعيات خلال أقل من شهرين فإن قادم الوقت سيحمل المزيد من هذه الارتدادات الخطيرة على أكثر من مكان.