قائد "لواء السامرة" لن يكون الأخير
في كل مرّة يلجأ فيها قائد عسكري إسرائيلي إلى موعظة دينية، وهو يصدر أوامر إلى جنوده على أعتاب القيام بمهمات عسكرية ضد الفلسطينيين، ولا سيما في الأراضي المحتلة منذ 1967، تعلو أصواتٌ إسرائيلية تستفظع هذا المسلك، كما لو أنه استثنائي وشاذّ. وهو ما حدث بالضبط حيال موعظة قائد "لواء السامرة"، العقيد روعي تسفايغ، لجنوده عشية توجههم إلى حراسة أعمال صيانة في موقع "قبر يوسف" في قلب مدينة نابلس أخيرًا. ومما كتبه هذا القائد بموعظته: "في هذا المكان بالذات، وُعدت الأرض لأبينا أبراهام، حيث قيل (لنَسلِك أُعطي هذه الأرض). سنعمل اليوم بيدٍ ساميةٍ مثل آبائنا وأجدادنا، ليس كلصوص في الليل بل كأبناء ملوك. وهكذا فقط نحظى باستعادة شرف الأرض وشعب إسرائيل".
وبغية تسويغ استنتاجها، تركّز تلك الأصوات خصوصا على أن ثمّة ظاهرة تديين آخذة بالاتساع في صفوف الجيش الإسرائيلي، ما يؤدّي إلى مزيد من ثقرطة مؤسّساته، فضلًا عن حدوث تحوّلاتٍ في عقيدته. وبالفعل، ثمّة ظاهرة كهذه سبق أن تناول الكاتب تجلياتها مرّات كثيرة في الماضي، وفي مقدّمها ازدياد حجم انخراط أبناء تيار الصهيونية الدينية ضمن القيادات التكتيكية والعملانيّة للجيش الإسرائيلي وصفوف الجيش عامة على مدار العقود الثلاثة الأخيرة. وفيها ما يفسّر ربما تواتر مثل هذه المواعظ الدينية في الجيش الإسرائيلي في الأعوام الأخيرة، ولعل أشهرها موعظة عوفر فينتر، قائد لواء "جفعاتي"، الذي وزّع خلال الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014 "أمرا قتاليّا" على جنود اللواء في بداية الحرب، أشار فيه إلى أن المعركة العسكرية في القطاع جزءٌ من حرب دينية تهدف إلى هزم "عدو يكفر بآلهة إسرائيل". ومعروفٌ أن جنود هذا اللواء كلفوا باستخدام "إجراء هنيبعل" في منطقة رفح في نطاق مساعي قوات الجيش الإسرائيلي لمنع اختطاف ضابط، وتُرجم ذلك بقصفٍ مكثفٍ للأحياء السكنية، ما تسبّب، حتى وفق مصادر إسرائيلية، بقتل ما بين 130 و150 فلسطينيًا، بينهم نساء وأطفال كثيرون. واستمرّ القصف حتى بعد إعلان الجيش عن مقتل الضابط، وطاول مدرسة تابعة لوكالة الغوث (أونروا)، لجأ إليها آلاف اللاجئين، ما أدّى إلى مقتل عدد كبير منهم. وتحدّث سكان رفح عن وقوعهم وسط فخّ من النيران، حين أخذ الجيش الإسرائيلي يقصف المنازل ويهدمها على رؤوس ساكنيها من دون تمييز. وحتى عندما حاول هؤلاء الفرار من المنازل، تعرّضوا للقذائف وهم في الشوارع. وبرهنت هذه الوقائع على أن شرعنة ارتكاب جرائم حرب تغدو أسهل، عندما يجري تصوير الحرب أنها حرب دينية ضد أناس كفّار.
لكن الانحباس في هذا التفسير لا يستنفد المقاربة المطلوبة لجذور هذه الظاهرة التي لا يمكن الاستدلال عليها من دون الوقوف عند الرابطة الوثيقة داخل الفكر الصهيوني بين مصدرين: طبيعة المشروع الصهيوني الكولونيالي القائم على عنصر الإحلال؛ المراجع الدينية اليهودية التي لا تنفك تشكل تُكأة لفتاو تبرّر القتل والطرد والنهب والسلب. والأمثلة على المصدر الثاني كثيرة، وفيها ما يثبت أن تسفايغ لم يكن الأول ولن يكون الأخير. ولا يتسع المقام لإيرادها، ولذا يُكتفى هنا بالتذكير فقط بما أوردناه بشأن الفترة الحالية، وفحواه أن جرائم الاحتلال المكثفة في أراضي الضفة الغربية، خلال الفترة القليلة الماضية، هي غاية موضوعة نصب أعين جنود الجيش الإسرائيلي، على الأقل منذ تولّي القائد الحالي، الجنرال أفيف كوخافي، مهمّات منصبه يوم 15 يناير/ كانون الثاني 2019، فقد كُتب آنذاك أنه "ذو نزعة قوة أكبر" ممن سبقوه! وسرعان ما برهن على ذلك في الخطاب الذي ألقاه خلال مراسم تسلّم منصبه، وفي "الأمر العسكري اليومي" الذي نشره في أول يوم له قائدا للجيش، عبر وعده بأن يوجّه جلّ جهوده لـ"تأهيل جيش فتّاك وناجع ومتجدّد"، مضيفًا أن التغيير الذي يتطلّع إلى الإتيان به سيتمحور حول تعزيز نزعة الفتك من جهة، ومزيد من تعدّد أذرع العمل العسكري من جهة أخرى!